للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أجزائها ولا بعدد أحيازها، والمتنفّس يتنفّس باختياره ولا يشعر في الغالب بنَفَسه، فضلًا عن أن يشعر بكمّيته وكيفيته ومبدئه ونهايته.

والعاقل قد يتكلم بالكلمة ويفعل الفعل باختياره، ثم بعد فراغه منه يعلم أنه لم يكن قاصدًا له، فنحن نعلم علمًا ضروريًا من أنفسنا عدم علمنا بوجود أكثر حركاتنا وسكناتنا في حالة المشي والقيام والقعود، ولو أردنا فصل كل جزء من أجزاء حركاتنا في حالة إسراعنا بالمشي والحركة والإحاطة به لم يُمْكنّا ذلك، بل ونعلم ذلك من حال أكمل العقلاء، فما الظن بالحيوانات العجم في مشيها وطيرانها وسباحتها، حتى الذر والبعوض.

وهذا مشاهد في السكران، ومن اشتدّ به الغضب، ولهذا قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: ٤٣]، فدلَّ على أن السكران يصدر منه أقوال لا يعلم بها، فكيف يكون هو المُحْدِث لتلك الأقوال وهي لا يُشْعَرُ بها، والإرادة فرع الشعور.

ولهذا أفتى الصحابة بأنه لا يقع طلاق السكران، نَزَّلوا حركة لسانه منزلة تحريك غيره له بغير إرادته.

ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا طلاق في إغلاق" (١)؛ لأن الإغلاق يمنع العلم والإرادة، فكيف يكون التطليق فعله وهو غير عالم به، ولا مريد له.

وأيضًا فقد قال جمهور الفقهاء: إن الناسي غير مكلَّف؛ لأن فعله لا يدخل تحت الاختيار، ففعْله غير مضاف إليه مع أنه وقع باختياره، وقد أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى هذا المعنى بعينه في قوله: "من أكل أو شرب ناسيًا فليُتِم


(١) تقدم تخريجه في (٤٥٢).