للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دعِ المكارمَ لا تنهض لبُغْيَتها ... واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي (١)

وهذا التعب والكد يستلزم آلامًا وحصول مكاره ومشاقّ هي الطريق إلى تلك الكمالات، ولم يقدحوا بتحمل تلك في حكمة مَن تحملها، ولا يعدونه عابثًا، بل هذا عندهم هو العقل الوافر، ومَن أَمَر غيره به فهو حكيم في أمره، ومَن نهاه عن ذلك فهو سفيه عدوٌّ له، هذا في مصالح المعاش، فكيف بمصالح الحياة الأبدية الدائمة والنعيم المقيم؟!

كيف لا يكون الآمر بالتعب القليل في الزمن اليسير، الموصِل إلى الخير الدائم؛ حكيمًا رحيمًا محسنًا ناصحًا لمن يأمره بذلك، وينهاه عن ضده من الراحة واللذة التي تقطعه عن كماله ولذته ومسرته الدائمة، هذا إلى ما في أمره ونهيه من مصالحه العاجلة التي بها سعادته وفلاحه وصلاحه، ونهيه عما فيه مضرته وعطبه وشقاوته.

فأوامر الرب تعالى رحمة وإحسان وشفاء ودواء وغذاء للقلوب، وزينة للظاهر والباطن، وحياة للقلب والبدن، وكم في ضمنه من مسرة وفرحة ولذة وبهجة، ونعيم وقرة عين، فما يسميه هؤلاء تكاليف، إنما هو قرة العيون، وبهجة النفوس، وحياة القلوب، ونور العقول، وتكميل للفطر، وإحسان تام إلى النوع الإنساني، أعظم من إحسانه إليه بالصحة والعافية والطعام والشراب واللباس.

فنعمته على عباده بإرسال رسله إليهم، وإنزال كتبه عليهم، وتعريفهم أمره ونهيه، وما يحبه ويبغضه؛ أعظم النعم وأجلها وأعلاها وأفضلها، بل لا


(١) البيت للحطيئة في «الديوان» (٥٠).