للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فإنه سبحانه لا يظلم أحدًا حسنة عملها، فأما المؤمن فيجزيه بحسناته في الدنيا وفي الآخرة، وأما الكافر فيجزيه بحسنات ما عمل في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له شيء، كما ثبت هذا المعنى في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - (١).

ومنها: أن إبقاءه لم يكن كرامة في حقه، فإنه لو مات كان خيرًا له، وأخف لعذابه، وأقلَّ لشره، ولكن لمّا غلُظ ذنبُهُ بالإصرار على المعصية، ومخاصمة من ينبغي التسليم لحُكْمِه، والقدح في حكمته، والحلف على اقتطاع عباده وصدّهم عن عبوديته= كانت عقوبة هذا الذنب أعظم عقوبة بحسب تغلّظه، فأُبْقِي في الدنيا، وأُمْلِي له ليزداد إثمًا على إثم ذلك الذنب، فيستوجب العقوبة التي لا تصلح لغيره، فيكون رأس أهل الشر في العقوبة، كما كان رأسهم في الشر والكفر، ولمّا (٢) كان مادة كل شر ـ فعنه ينشأ ـ جُوزِي في النار مثل فعله، فكل عذاب ينزل بأهل النار يُبدأ به فيه، ثم يسري منه إلى أتباعه عدلًا ظاهرًا وحكمةً بالغةً.

ومنها: أنه قال في مخاصمته لربه: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: ٦٢]، وعلم سبحانه أن في الذرية من لا يصلح لمساكنته في داره، ولا يصلح إلا لما يصلح له الشوك والرَّوْث، أبقاه له، وقال له بلسان القدر: هؤلاء أصحابك وأولياؤك، فاجلس في انتظارهم، فكلما مرَّ بك واحد منهم فشأنك به، فلو صلح لي لمّا مكّنتك منه، فإني أتولى الصالحين، وهم الذين يصلحون لي، وأنت ولي المجرمين الذين رغبوا عن موالاتي وابتغاء مرضاتي، قال تعالى:


(١) أخرجه مسلم (٢٨٠٨) من حديث أنس بن مالك.
(٢) «م»: «وكما».