وَفِي الْقِصَّةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ عَقْدِ الْهُدْنَةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، بَلْ مَا شَاءَ الْإِمَامُ، وَلَمْ يَجِئْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَنْسَخُ هَذَا الْحُكْمَ الْبَتَّةَ، فَالصَّوَابُ جَوَازُهُ وَصِحَّتُهُ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي رِوَايَةِ المزني، وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَلَكِنْ لَا يَنْهَضُ إِلَيْهِمْ وَيُحَارِبُهُمْ حَتَّى يُعْلِمَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ لِيَسْتَوُوا هُمْ وَهُوَ فِي الْعِلْمِ بِنَقْضِ الْعَهْدِ.
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ تَعْزِيرِ الْمُتَّهَمِ بِالْعُقُوبَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاسَاتِ الشَّرْعِيَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَدُلَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَوْضِعِ الْكَنْزِ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ، وَلَكِنْ أَرَادَ أَنْ يَسُنَّ لِلْأُمَّةِ عُقُوبَةَ الْمُتَّهَمِينَ، وَيُوَسِّعَ لَهُمْ طُرُقَ الْأَحْكَامِ رَحْمَةً بِهِمْ، وَتَيْسِيرًا لَهُمْ.
وَفِيهَا دَلِيلٌ عَلَى الْأَخْذِ بِالْقَرَائِنِ فِي الِاسْتِدْلَالِ عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَفَسَادِهَا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْيَةَ لَمَّا ادَّعَى نَفَادَ الْمَالِ: ( «الْعَهْدُ قَرِيبٌ، وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ» ) .
وَكَذَلِكَ فَعَلَ نَبِيُّ اللَّهِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ فِي اسْتِدْلَالِهِ بِالْقَرِينَةِ عَلَى تَعْيِينِ أُمِّ الطِّفْلِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الذِّئْبُ، وَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْمَرْأَتَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهَا، وَاخْتَصَمَتَا فِي الْآخَرِ، فَقَضَى بِهِ دَاوُدُ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا إِلَى سُلَيْمَانَ، فَقَالَ: (بِمَ قَضَى بَيْنَكُمَا نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ رَحِمَكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى) . فَاسْتَدَلَّ بِقَرِينَةِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ الَّتِي فِي قَلْبِهَا، وَعَدَمِ سَمَاحَتِهَا بِقَتْلِهِ، وَسَمَاحَةِ الْأُخْرَى بِذَلِكَ لِتَصِيرَ أُسْوَتَهَا فِي فَقْدِ الْوَلَدِ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ الصُّغْرَى.
فَلَوِ اتَّفَقَتْ مِثْلُ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ فِي شَرِيعَتِنَا، لَقَالَ أَصْحَابُ أحمد وَالشَّافِعِيِّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute