وَتَأَمَّلْ مَا فِي تَسْبِيحِهِمْ لِلَّهِ وَتَنْزِيهِهِمْ لَهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَ لِرَسُولِهِ وَخَلِيلِهِ وَأَكْرَمِ الْخَلْقِ عَلَيْهِ امْرَأَةً خَبِيثَةً بَغِيًّا، فَمَنْ ظَنَّ بِهِ سُبْحَانَهُ هَذَا الظَّنَّ فَقَدْ ظَنَّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَعَرَفَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْخَبِيثَةَ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِمِثْلِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: ٢٦] [النُّورِ: ٢٦] ، فَقَطَعُوا قَطْعًا لَا يَشُكُّونَ فِيهِ أَنَّ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، وَفِرْيَةٌ ظَاهِرَةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا بَالُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَقَّفَ فِي أَمْرِهَا، وَسَأَلَ عَنْهَا وَبَحَثَ وَاسْتَشَارَ، وَهُوَ أَعْرَفُ بِاللَّهِ وَبِمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ وَبِمَا يَلِيقُ بِهِ، وَهَلَّا قَالَ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: ١٦] كَمَا قَالَهُ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مِنْ تَمَامِ الْحِكَمِ الْبَاهِرَةِ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْقِصَّةَ سَبَبًا لَهَا، وَامْتِحَانًا وَابْتِلَاءً لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِيَرْفَعَ بِهَذِهِ الْقِصَّةِ أَقْوَامًا وَيَضَعَ بِهَا آخَرِينَ، وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَإِيمَانًا، وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا، وَاقْتَضَى تَمَامُ الِامْتِحَانِ وَالِابْتِلَاءِ أَنْ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ شَهْرًا فِي شَأْنِهَا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِتَتِمَّ حِكْمَتُهُ الَّتِي قَدَّرَهَا وَقَضَاهَا، وَتَظْهَرَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَيَزْدَادَ الْمُؤْمِنُونَ الصَّادِقُونَ إِيمَانًا وَثَبَاتًا عَلَى الْعَدْلِ وَالصِّدْقِ وَحُسْنِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَالصِّدِّيقِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَيَزْدَادَ الْمُنَافِقُونَ إِفْكًا وَنِفَاقًا، وَيُظْهِرَ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ سَرَائِرَهُمْ، وَلِتَتِمَّ الْعُبُودِيَّةُ الْمُرَادَةُ مِنَ الصِّدِّيقَةِ وَأَبَوَيْهَا، وَتَتِمَّ نِعْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلِتَشْتَدَّ الْفَاقَةُ وَالرَّغْبَةُ مِنْهَا وَمِنْ أَبَوَيْهَا، وَالِافْتِقَارُ إِلَى اللَّهِ وَالذُّلُّ لَهُ وَحُسْنُ الظَّنِّ بِهِ وَالرَّجَاءُ لَهُ، وَلِيَنْقَطِعَ رَجَاؤُهَا مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَتَيْأَسَ مِنْ حُصُولِ النُّصْرَةِ وَالْفَرَجِ عَلَى يَدِ أَحَدٍ مِنَ الْخَلْقِ، وَلِهَذَا وَفَّتْ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ لَمَّا «قَالَ لَهَا أَبَوَاهَا: قُومِي إِلَيْهِ، وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَرَاءَتَهَا، فَقَالَتْ: (وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلَا أَحْمَدُ إلَّا اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي» ) .
وَأَيْضًا فَكَانَ مِنْ حِكْمَةِ حَبْسِ الْوَحْي شَهْرًا، أَنَّ الْقَضِيّةَ مُحِّصَتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute