للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَمَّا رَآهَا عَرَفَهَا، وَكَانَ يَرَاهَا قَبْلَ نُزُولِ الْحِجَابِ، فَاسْتَرْجَعَ، وَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ، فَقَرَّبَهَا إِلَيْهَا، فَرَكِبَتْهَا وَمَا كَلَّمَهَا كَلِمَةً وَاحِدَةً، وَلَمْ تَسْمَعْ مِنْهُ إِلَّا اسْتِرْجَاعَهُ، ثُمَّ سَارَ بِهَا يَقُودُهَا حَتَّى قَدِمَ بِهَا، وَقَدْ نَزَلَ الْجَيْشُ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ النَّاسُ تَكَلَّمَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِشَاكِلَتِهِ، وَمَا يَلِيقُ بِهِ، وَوَجَدَ الْخَبِيثُ عَدُوُّ اللَّهِ ابْنُ أُبَيٍّ مُتَنَفَّسًا، فَتَنَفَّسَ مِنْ كَرْبِ النِّفَاقِ وَالْحَسَدِ الَّذِي بَيْنَ ضُلُوعِهِ، فَجَعَلَ يَسْتَحْكِي الْإِفْكَ وَيَسْتَوْشِيهِ، وَيُشِيعُهُ وَيُذِيعُهُ، وَيَجْمَعُهُ وَيُفَرِّقُهُ، وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَيْهِ. فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَفَاضَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الْحَدِيثِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، ثُمَّ اسْتَشَارَ أَصْحَابَهُ فِي فِرَاقِهَا، فَأَشَارَ عَلَيْهِ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُفَارِقَهَا وَيَأْخُذَ غَيْرَهَا تَلْوِيحًا لَا تَصْرِيحًا، وَأَشَارَ عَلَيْهِ أسامة وَغَيْرُهُ بِإِمْسَاكِهَا وَأَلَّا يَلْتَفِتَ إِلَى كَلَامِ الْأَعْدَاءِ، فعلي لَمَّا رَأَى أَنَّ مَا قِيلَ مَشْكُوكٌ فِيهِ أَشَارَ بِتَرْكِ الشَّكِّ وَالرِّيبَةِ إِلَى الْيَقِينِ لِيَتَخَلَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْهَمِّ وَالْغَمِّ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ كَلَامِ النَّاسِ، فَأَشَارَ بِحَسْمِ الدَّاءِ، وأسامة لَمَّا عَلِمَ حُبَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا وَلِأَبِيهَا وَعَلِمَ مِنْ عِفَّتِهَا وَبَرَاءَتِهَا وَحَصَانَتِهَا وَدِيَانَتِهَا مَا هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأَعْظَمُ مِنْهُ، وَعَرَفَ مِنْ كَرَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَبِّهِ، وَمَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَدِفَاعِهِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ رَبَّةَ بَيْتِهِ وَحَبِيبَتَهُ مِنَ النِّسَاءِ، وَبِنْتَ صِدِّيقِهِ بِالْمَنْزِلَةِ الَّتِي أَنْزَلَهَا بِهِ أَرْبَابُ الْإِفْكِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ عَلَى رَبِّهِ وَأَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ تَحْتَهُ امْرَأَةً بَغِيًّا، وَعَلِمَ أَنَّ الصِّدِّيقَةَ حَبِيبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْرَمُ عَلَى رَبِّهَا مِنْ أَنْ يَبْتَلِيَهَا بِالْفَاحِشَةِ، وَهِيَ تَحْتَ رَسُولِهِ، وَمَنْ قَوِيَتْ مَعْرِفَتُهُ لِلَّهِ وَمَعْرِفَتُهُ لِرَسُولِهِ، وَقَدْرِهِ عِنْدَ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ قَالَ كَمَا قَالَ أبو أيوب وَغَيْرُهُ مِنْ سَادَاتِ الصَّحَابَةِ لَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: ١٦] [النُّورِ: ١٦] .

<<  <  ج: ص:  >  >>