جَاهِلِيَّتِهَا يَرَى الرَّجُلُ قَاتِلَ أَبِيهِ، أَوِ ابْنَهُ فِي الْحَرَمِ، فَلَا يَهِيجُهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ خَاصِّيَّةَ الْحَرَمِ الَّتِي صَارَ بِهَا حَرَمًا، ثُمَّ جَاءَ الْإِسْلَامُ، فَأَكَّدَ ذَلِكَ وَقَوَّاهُ، وَعَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ مِنَ الْأُمَّةِ مَنْ يَتَأَسَّى بِهِ فِي إِحْلَالِهِ بِالْقِتَالِ وَالْقَتْلِ، فَقَطَعَ الْإِلْحَاقَ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: ( «فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقَتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا: " إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكَ» ) وَعَلَى هَذَا فَمَنْ أَتَى حَدًّا أَوْ قِصَاصًا خَارِجَ الْحَرَمِ يُوجِبُ الْقَتْلَ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، لَمْ يَجُزْ إِقَامَتُهُ عَلَيْهِ فِيهِ. وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ وَجَدْتُ فِيهِ قَاتِلَ الخطاب مَا مَسِسْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ) .
وَذُكِرَ عَنْ عبد الله بن عمر أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ لَقِيتُ فِيهِ قَاتِلَ عمر مَا نَدَهْتُهُ) وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: (لَوْ لَقِيتُ قَاتِلَ أَبِي فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ) وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ التَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ لَا يُحْفَظُ عَنْ تَابِعِيٍّ وَلَا صَحَابِيٍّ خِلَافُهُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أبو حنيفة وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ.
وَذَهَبَ مالك وَالشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحَرَمِ، كَمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِي الْحِلِّ، وَهُوَ اخْتِيَارُ ابن المنذر، وَاحْتُجَّ لِهَذَا الْقَوْلِ بِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، ( «وَبِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتَلَ ابن خطل، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ» ) .
وَبِمَا يُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: ( «إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا بِخَرْبَةٍ» ) وَبِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، وَبِأَنَّهُ لَوْ أَتَى فِيهِ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا، لَمْ يُعِذْهُ الْحَرَمُ، وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ إِقَامَتِهِ عَلَيْهِ، فَكَذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ خَارِجَهُ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ، إِذْ كَوْنُهُ حَرَمًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِصْمَتِهِ، لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute