لَمْ يُؤْمَرُوا وَلَمْ يُنْهَوْا وَلَمْ يُكَلَّمُوا، فَكَانَ مَنْ حَضَرَ مِنْهُمُ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُمْنَعْ، وَمَنْ تَرَكَهَا لَمْ يُكَلَّمْ، أَوْ يُقَالُ: لَعَلَّهُمَا ضَعُفَا وَعَجَزَا عَنِ الْخُرُوجِ، وَلِهَذَا قَالَ كعب: وَكُنْتُ أَنَا أَجْلَدَ الْقَوْمِ وَأَشَبَّهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلَاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَوْلُهُ: وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَأَقُولُ: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلَامِ عَلَيَّ أَمْ لَا؟ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْهَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ، إِذْ لَوْ وَجَبَ الرَّدُّ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِسْمَاعِهِ.
وَقَوْلُهُ: حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ، تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أبي قتادة، فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى دُخُولِ الْإِنْسَانِ دَارَ صَاحِبِهِ وَجَارِهِ إِذَا عَلِمَ رِضَاهُ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ.
وَفِي قَوْلِ أبي قتادة لَهُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِطَابٍ وَلَا كَلَامٍ لَهُ، فَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ، فَقَالَ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ جَوَابًا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ مُكَالَمَتَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ حَالِ أبي قتادة.
وَفِي إِشَارَةِ النَّاسِ إِلَى النَّبَطِيِّ - الَّذِي كَانَ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ - دُونَ نُطْقِهِمْ لَهُ تَحْقِيقٌ لِمَقْصُودِ الْهَجْرِ، وَإِلَّا فَلَوْ قَالُوا لَهُ صَرِيحًا: ذَاكَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَلَامًا لَهُ، فَلَا يَكُونُونَ بِهِ مُخَالِفِينَ لِلنَّهْيِ، وَلَكِنْ لِفَرْطِ تَحَرِّيهِمْ وَتَمَسُّكِهِمْ بِالْأَمْرِ لَمْ يَذْكُرُوهُ لَهُ بِصَرِيحِ اسْمِهِ. وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ فِي الْحَدِيثِ عَنْهُ بِحَضْرَتِهِ وَهُوَ يَسْمَعُ نَوْعَ مُكَالَمَةٍ لَهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَعَلَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إِلَى الْمَقْصُودِ بِكَلَامِهِ، وَهِيَ ذَرِيعَةٌ قَرِيبَةٌ، فَالْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ مَنْعِ الْحِيَلِ وَسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَهَذَا أَفْقَهُ وَأَحْسَنُ.
وَفِي مُكَاتَبَةِ مَلِكِ غَسَّانَ لَهُ بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ ابْتِلَاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَامْتِحَانٌ لِإِيمَانِهِ وَمَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِظْهَارٌ لِلصَّحَابَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ ضَعُفَ إِيمَانُهُ بِهَجْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمِينَ لَهُ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ تَحْمِلُهُ الرَّغْبَةُ فِي الْجَاهِ وَالْمُلْكِ مَعَ هِجْرَانِ الرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ لَهُ عَلَى مُفَارَقَةِ دِينِهِ، فَهَذَا فِيهِ مِنْ تَبْرِئَةِ اللَّهِ لَهُ مِنَ النِّفَاقِ وَإِظْهَارِ قُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَصِدْقِهِ لِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ مَا هُوَ مِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَلُطْفِهِ بِهِ وَجَبْرِهِ لِكَسْرِهِ، وَهَذَا الْبَلَاءُ يُظْهِرُ لُبَّ الرَّجُلِ وَسِرَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute