وَمَا يَنْطَوِي عَلَيْهِ، فَهُوَ كَالْكِيرِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَيَمَّمْتُ بِالصَّحِيفَةِ التَّنُّورَ، فِيهِ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِتْلَافِ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْفَسَادُ وَالْمَضَرَّةُ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْحَازِمَ لَا يَنْتَظِرُ بِهِ وَلَا يُؤَخِّرُهُ، وَهَذَا كَالْعَصِيرِ إِذَا تَخَمَّرَ، وَكَالْكِتَابِ الَّذِي يُخْشَى مِنْهُ الضَّرَرُ وَالشَّرُّ، فَالْحَزْمُ الْمُبَادَرَةُ إِلَى إِتْلَافِهِ وَإِعْدَامِهِ.
وَكَانَتْ غَسَّانُ إِذْ ذَاكَ - وَهُمْ مُلُوكُ عَرَبِ الشَّامِ - حَرْبًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يُنْعِلُونَ خُيُولَهُمْ لِمُحَارَبَتِهِ، وَكَانَ هَذَا (لَمَّا بَعَثَ شجاع بن وهب الأسدي إِلَى مَلِكِهِمُ الحارث بن أبي شمر الغساني يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَتَبَ مَعَهُ إِلَيْهِ، قَالَ شجاع: فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي غَوْطَةِ دِمَشْقَ، وَهُوَ مَشْغُولٌ بِتَهْيِئَةِ الْأَنْزَالِ وَالْأَلْطَافِ لقيصر، وَهُوَ جَاءٍ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ، فَأَقَمْتُ عَلَى بَابِهِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَقُلْتُ لِحَاجِبِهِ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ، فَقَالَ: لَا تَصِلُ إِلَيْهِ حَتَّى يَخْرُجَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، وَجَعَلَ حَاجِبُهُ - وَكَانَ رُومِيًّا اسْمُهُ مري - يَسْأَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْتُ أُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَدْعُو إِلَيْهِ، فَيَرِقُّ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَيْهِ الْبُكَاءُ، وَيَقُولُ: إِنِّي قَرَأْتُ الْإِنْجِيلَ فَأَجِدُ صِفَةَ هَذَا النَّبِيِّ بِعَيْنِهِ، فَأَنَا أُؤْمِنُ بِهِ وَأُصَدِّقُهُ فَأَخَافُ مِنَ الحارث أَنْ يَقْتُلَنِي، وَكَانَ يُكْرِمُنِي وَيُحْسِنُ ضِيَافَتِي.
وَخَرَجَ الحارث يَوْمًا فَجَلَسَ فَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذِنَ لِي عَلَيْهِ، فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَرَأَهُ ثُمَّ رَمَى بِهِ، قَالَ: مَنْ يَنْتَزِعُ مِنِّي مُلْكِي، وَقَالَ: أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ وَلَوْ كَانَ بِالْيَمَنِ جِئْتُهُ، عَلَيَّ بِالنَّاسِ، فَلَمْ تَزَلْ تُعْرَضُ حَتَّى قَامَ، وَأَمَرَ بِالْخُيُولِ تُنْعَلُ، ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا تَرَى، وَكَتَبَ إِلَى قيصر يُخْبِرُهُ خَبَرِي وَمَا عَزَمَ عَلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ قيصر: أَنْ لَا تَسِرْ، وَلَا تَعْبُرْ إِلَيْهِ وَالْهُ عَنْهُ، وَوَافِنِي بِإِيلِيَاءَ، فَلَمَّا جَاءَهُ جَوَابُ كِتَابِهِ، دَعَانِي فَقَالَ: مَتَى تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى صَاحِبِكَ؟ فَقُلْتُ: غَدًا، فَأَمَرَ لِي بِمِائَةِ مِثْقَالٍ ذَهَبًا، وَوَصَلَنِي حَاجِبُهُ بِنَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ، وَقَالَ: اقْرَأْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنِّي السَّلَامَ، فَقَدِمْتُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute