اقْتَضَتْهُ، كَمَا اقْتَضَتْ إِضَافَتُهُ لِعَبْدِهِ وَرَسُولِهِ إِلَى نَفْسِهِ مَا اقْتَضَتْهُ مِنْ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ إِضَافَتُهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ كَسَتْهُمْ مِنَ الْجَلَالِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْوَقَارِ مَا كَسَتْهُمْ، فَكُلُّ مَا أَضَافَهُ الرَّبُّ تَعَالَى إِلَى نَفْسِهِ فَلَهُ مِنَ الْمَزِيَّةِ وَالِاخْتِصَاصِ عَلَى غَيْرِهِ مَا أَوْجَبَ لَهُ الِاصْطِفَاءَ وَالِاجْتِبَاءَ، ثُمَّ يَكْسُوهُ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ تَفْضِيلًا آخَرَ، وَتَخْصِيصًا وَجَلَالَةً زَائِدًا عَلَى مَا كَانَ لَهُ قَبْلَ الْإِضَافَةِ، وَلَمْ يُوَفَّقْ لِفَهْمِ هَذَا الْمَعْنَى مَنْ سَوَّى بَيْنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ وَالْأَزْمَانِ وَالْأَمَاكِنِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مُجَرَّدُ التَّرْجِيحِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ وَجْهًا قَدْ ذُكِرَتْ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَيَكْفِي تَصَوُّرُ هَذَا الْمَذْهَبِ الْبَاطِلِ فِي فَسَادِهِ، فَإِنَّ مَذْهَبَنَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ ذَوَاتُ الرُّسُلِ كَذَوَاتِ أَعْدَائِهِمْ فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِأَمْرٍ لَا يَرْجِعُ إِلَى اخْتِصَاصِ الذَّوَاتِ بِصِفَاتٍ وَمَزَايَا لَا تَكُونُ لِغَيْرِهَا، وَكَذَلِكَ نَفْسُ الْبِقَاعِ وَاحِدَةٌ بِالذَّاتِ لَيْسَ لِبُقْعَةٍ عَلَى بُقْعَةٍ مَزِيَّةٌ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا هُوَ لِمَا يَقَعُ فِيهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَلَا مَزِيَّةَ لِبُقْعَةِ الْبَيْتِ، وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمِنًى، وَعَرَفَةَ، وَالْمَشَاعِرِ عَلَى أَيِّ بُقْعَةٍ سَمَّيْتُهَا مِنَ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا التَّفْضِيلُ بِاعْتِبَارِ أَمْرٍ خَارِجٍ عَنِ الْبُقْعَةِ لَا يَعُودُ إِلَيْهَا وَلَا إِلَى وَصْفٍ قَائِمٍ بِهَا، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَدْ رَدَّ هَذَا الْقَوْلَ الْبَاطِلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: ١٢٤] ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: ١٢٤] [الْأَنْعَامِ: ١٢٤] أَيْ: لَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ أَهْلًا وَلَا صَالِحًا لِتَحَمُّلِ رِسَالَتِهِ، بَلْ لَهَا مَحَالُّ مَخْصُوصَةٌ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِهَا، وَلَا تَصْلُحُ إِلَّا لَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَحَالِّ مِنْكُمْ. وَلَوْ كَانَتِ الذَّوَاتُ مُتَسَاوِيَةً كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ رَدٌّ عَلَيْهِمْ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: ٥٣] [الْأَنْعَامِ: ٥٣] أَيْ: هُوَ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يَشْكُرُهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، فَيَخْتَصُّهُ بِفَضْلِهِ وَيَمُنُّ عَلَيْهِ مِمَّنْ لَا يَشْكُرُهُ، فَلَيْسَ كُلُّ مَحَلٍّ يَصْلُحُ لِشُكْرِهِ، وَاحْتِمَالِ مِنَّتِهِ، وَالتَّخْصِيصِ بِكَرَامَتِهِ.
فَذَوَاتُ مَا اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَمَاكِنِ وَالْأَشْخَاصِ وَغَيْرِهَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute