للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَيْفَ عَدَّى فِعْلَ الْإِرَادَةِ هَاهُنَا بِالْبَاءِ، وَلَا يُقَالُ: أَرَدْتُ بِكَذَا إِلَّا لِمَا ضُمِّنَ مَعْنَى فِعْلِ " هَمَّ " فَإِنَّهُ يُقَالُ: هَمَمْتُ بِكَذَا، فَتَوَعَّدَ مَنْ هَمَّ بِأَنْ يَظْلِمَ فِيهِ بِأَنْ يُذِيقَهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.

وَمِنْ هَذَا تَضَاعُفُ مَقَادِيرِ السَّيِّئَاتِ فِيهِ لَا كَمِّيَّاتِهَا، فَإِنَّ السَّيِّئَةَ جَزَاؤُهَا سَيِّئَةٌ، لَكِنْ سَيِّئَةٌ كَبِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا، وَصَغِيرَةٌ جَزَاؤُهَا مِثْلُهَا، فَالسَّيِّئَةُ فِي حَرَمِ اللَّهِ وَبَلَدِهِ وَعَلَى بِسَاطِهِ آكَدُ وَأَعْظَمُ مِنْهَا فِي طَرَفٍ مِنْ أَطْرَافِ الْأَرْضِ، وَلِهَذَا لَيْسَ مَنْ عَصَى الْمَلِكَ عَلَى بِسَاطِ مُلْكِهِ كَمَنْ عَصَاهُ فِي الْمَوْضِعِ الْبَعِيدِ مِنْ دَارِهِ وَبِسَاطِهِ، فَهَذَا فَصْلُ النِّزَاعِ فِي تَضْعِيفِ السَّيِّئَاتِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَدْ ظَهَرَ سِرُّ هَذَا التَّفْضِيلِ وَالِاخْتِصَاصِ فِي انْجِذَابِ الْأَفْئِدَةِ وَهَوَى الْقُلُوبِ وَانْعِطَافِهَا وَمَحَبَّتِهَا لِهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ، فَجَذْبُهُ لِلْقُلُوبِ أَعْظَمُ مِنْ جَذْبِ الْمِغْنَاطِيسِ لِلْحَدِيدِ، فَهُوَ الْأَوْلَى بِقَوْلِ الْقَائِلِ:

محَاسِنُهُ هَيُولَى كُلِّ حُسْنٍ ... وَمِغْنَاطِيسُ أَفْئِدَةِ الرِّجَالِ

وَلِهَذَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ مَثَابَةٌ لِلنَّاسِ، أَيْ: يَثُوبُونَ إِلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ الْأَعْوَامِ مِنْ جَمِيعِ الْأَقْطَارِ، وَلَا يَقْضُونَ مِنْهُ وَطَرًا، بَلْ كُلَّمَا ازْدَادُوا لَهُ زِيَارَةً ازْدَادُوا لَهُ اشْتِيَاقًا.

لَا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهَا حِينَ يَنْظُرُهَا ... حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهَا الطَّرْفُ مُشْتَاقًا

فَلَلَّهِ كَمْ لَهَا مِنْ قَتِيلٍ وَسَلِيبٍ وَجَرِيحٍ، وَكَمْ أُنْفِقَ فِي حُبِّهَا مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَرْوَاحِ، وَرَضِيَ الْمُحِبُّ بِمُفَارَقَةِ فِلَذِ الْأَكْبَادِ، وَالْأَهْلِ وَالْأَحْبَابِ وَالْأَوْطَانِ، مُقَدِّمًا بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْوَاعَ الْمَخَاوِفِ وَالْمَتَالِفِ وَالْمَعَاطِفِ وَالْمَشَاقِّ، وَهُوَ يَسْتَلِذُّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَسْتَطِيبُهُ وَيَرَاهُ -لَوْ ظَهَرَ سُلْطَانُ الْمَحَبَّةِ فِي قَلْبِهِ- أَطْيَبَ مِنْ نِعَمِ الْمُتَحَلِّيَةِ وَتَرَفِهِمْ وَلَذَّاتِهِمْ.

وَلَيْسَ مُحِبًّا مَنْ يَعُدُّ شَقَاءَهُ ... عَذَابًا إِذَا مَا كَانَ يَرْضَى حَبِيبُهُ

وَهَذَا كُلُّهُ سِرُّ إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: ٢٦] [الْحَجِّ: ٢٦] فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الْإِضَافَةُ الْخَاصَّةُ مِنْ هَذَا الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْمَحَبَّةِ مَا

<<  <  ج: ص:  >  >>