وَكَانَ فِي قِصَّةِ بريرة مِنَ الْفِقْهِ جَوَازُ مُكَاتَبَةِ الْمَرْأَةِ، وَجَوَازُ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ لَمْ يُعْجِزْهُ سَيِّدُهُ، وَهَذَا مَذْهَبُ أحمد الْمَشْهُورُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ نُصُوصِهِ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أبي طالب: لَا يَطَأُ مُكَاتَبَتَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَبِيعَهَا. وَبِهَذَا قَالَ أبو حنيفة ومالك وَالشَّافِعِيُّ. وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقَرَّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شِرَائِهَا وَأَهْلَهَا عَلَى بَيْعِهَا، وَلَمْ يَسْأَلْ: أَعَجَزَتْ أَمْ لَا، وَمَجِيئُهَا تَسْتَعِينُ فِي كِتَابَتِهَا لَا يَسْتَلْزِمُ عَجْزَهَا، وَلَيْسَ فِي بَيْعِ الْمُكَاتَبِ مَحْذُورٌ، فَإِنَّ بَيْعَهُ لَا يُبْطِلُ كِتَابَتَهُ، فَإِنَّهُ يَبْقَى عِنْدَ الْمُشْتَرِي كَمَا كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ، إِنْ أَدَّى إِلَيْهِ عَتَقَ، وَإِنْ عَجَزَ عَنِ الْأَدَاءِ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَهُ إِلَى الرِّقِّ كَمَا كَانَ عِنْدَ بَائِعِهِ، فَلَوْ لَمْ تَأْتِ السُّنَّةُ بِجَوَازِ بَيْعِهِ، لَكَانَ الْقِيَاسُ يَقْتَضِيهِ.
وَقَدِ ادَّعَى غَيْرُ وَاحِدٍ الْإِجْمَاعَ الْقَدِيمَ عَلَى جَوَازِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ. قَالُوا: لِأَنَّ قِصَّةَ بريرة وَرَدَتْ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ، وَلَمْ يَبْقَ بِالْمَدِينَةِ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا صَفْقَةٌ. جَرَتْ بَيْنَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، وَبَيْنَ بَعْضِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَهُمْ مَوَالِي بريرة، ثُمَّ خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ فِي أَمْرِ بَيْعِهَا خُطْبَةً فِي غَيْرِ وَقْتِ الْخُطْبَةِ، وَلَا يَكُونُ شَيْءٌ أَشْهَرَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ كَانَ مِنْ مَشْيِ زَوْجِهَا خَلْفَهَا بَاكِيًا فِي أَزِقَّةِ الْمَدِينَةِ مَا زَادَ الْأَمْرَ شُهْرَةً عِنْدَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، قَالُوا: فَظَهَرَ يَقِينًا أَنَّهُ إِجْمَاعٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، إِذْ لَا يُظَنُّ بِصَاحِبٍ أَنَّهُ يُخَالِفُ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الظَّاهِرِ الْمُسْتَفِيضِ. قَالُوا: وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُوجِدُوا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَنْعَ مِنْ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِلَّا رِوَايَةً شَاذَّةً عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَا يُعْرَفُ لَهَا إِسْنَادٌ.
وَاعْتَذَرَ مَنْ مَنَعَ بَيْعَهُ بِعُذْرَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ بريرة كَانَتْ قَدْ عَجَزَتْ وَهَذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute