يَقْتَضِهِ الْعَقْدُ - فَاسِدٌ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُ أَلَّا يُفَارِقَهَا الْبَتَّةَ، وَيُمْسِكَهَا حَتَّى يُفَرِّقَ الْمَوْتُ بَيْنَهُمَا، وَالنِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى مُدَّةِ الْعُمُرِ، فَهُوَ يَمْلِكُ اسْتِدَامَةَ إِمْسَاكِهَا، وَعِتْقُهَا لَا يَسْلُبُهُ هَذَا الْمِلْكَ فَكَيْفَ يَسْلُبُهُ إِيَّاهُ مِلْكَهُ عَلَيْهَا طَلْقَةً ثَالِثَةً، وَهَذَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ مُعْتَبَرًا بِالنِّسَاءِ، فَكَيْفَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِمَنْ هُوَ بِيَدِهِ وَإِلَيْهِ وَمَشْرُوعٌ فِي جَانِبِهِ.
وَأَمَّا الْمَأْخَذُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَلِكُهَا نَفْسَهَا فَهُوَ أَرْجَحُ الْمَآخِذِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى أُصُولِ الشَّرْعِ، وَأَبْعَدُهَا مِنَ التَّنَاقُضِ، وَسِرُّ هَذَا الْمَأْخَذِ أَنَّ السَّيِّدَ عَقَدَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَالْعِتْقُ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُعْتِقِ، وَهَذَا مَقْصُودُ الْعِتْقِ وَحِكْمَتُهُ فَإِذَا مَلَكَتْ رَقَبَتَهَا مَلَكَتْ بُضْعَهَا وَمَنَافِعَهَا وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ، فَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهَا إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا، فَخَيَّرَهَا الشَّارِعُ بَيْنَ أَنْ تُقِيمَ مَعَ زَوْجِهَا، وَبَيْنَ أَنْ تَفْسَخَ نِكَاحَهُ، إِذْ قَدْ مَلَكَتْ مَنَافِعَ بُضْعِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بريرة أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: ( «مَلَكْتِ نَفْسَكِ فَاخْتَارِي» ) .
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا يَنْتَقِضُ بِمَا لَوْ زَوَّجَهَا ثُمَّ بَاعَهَا، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ مَلَكَ رَقَبَتَهَا وَبُضْعَهَا وَمَنَافِعَهُ، وَلَا تُسَلِّطُونَهُ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ. قُلْنَا: لَا يَرِدُ هَذَا نَقْضًا، فَإِنَّ الْبَائِعَ نَقَلَ إِلَى الْمُشْتَرِي مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَصَارَ الْمُشْتَرِي خَلِيفَتَهُ، وَهُوَ لَمَّا زَوَّجَهَا، أَخْرَجَ مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ عَنْ مِلْكِهِ إِلَى الزَّوْجِ، ثُمَّ نَقَلَهَا إِلَى الْمُشْتَرِي مَسْلُوبَةَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ آجَرَ عَبْدَهُ مُدَّةً ثُمَّ بَاعَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَبْ أَنَّ هَذَا يَسْتَقِيمُ لَكُمْ فِيمَا إِذَا بَاعَهَا، فَهَلَّا قُلْتُمْ ذَلِكَ إِذَا أَعْتَقَهَا وَأَنَّهَا مَلَكَتْ نَفْسَهَا مَسْلُوبَةَ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ، كَمَا لَوْ آجَرَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا، وَلِهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْكُمْ هَذَا الْمَأْخَذُ؟ .
قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الْعِتْقَ فِي تَمْلِيكِ الْعَتِيقِ رَقَبَتَهُ وَمَنَافِعَهُ أَقْوَى مِنَ الْبَيْعِ، وَلِهَذَا يَنْفُذُ فِيمَا لَمْ يُعْتِقْهُ وَيَسْرِي فِي حِصَّةِ الشَّرِيكِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَالْعِتْقُ إِسْقَاطُ مَا كَانَ السَّيِّدُ يَمْلِكُهُ مِنْ عَتِيقِهِ، وَجَعْلُهُ لَهُ مُحَرَّرًا، وَذَلِكَ يَقْتَضِي إِسْقَاطَ مِلْكِ نَفْسِهِ وَمَنَافِعِهَا كُلِّهَا.
وَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ يَسْرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ الْمَحْضِ الَّذِي لَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute