للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْكَ، وَإِنْ لَمْ تُوَفِّنِي حَبَسْتُكَ، كَانَ مُقْتَضَاهُ أَنَّ الْوَفَاءَ وَالْحَبْسَ بَعْدَ الْمُدَّةِ لَا فِيهَا: وَلَا يَعْقِلُ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ هَذَا. فَإِنْ قِيلَ: مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ قَوْلِهِ لَكَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ فَسَخْتَ الْبَيْعَ، وَإِلَّا لَزِمَكَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَسْخَ إِنَّمَا يَقَعُ فِي الثَّلَاثِ لَا بَعْدَهَا؟ قِيلَ هَذَا مِنْ أَقْوَى حُجَجِنَا عَلَيْكُمْ، فَإِنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ اللُّزُومُ، فَجُعِلَ لَهُ الْخِيَارُ فِي مُدَّةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ وَلَمْ يَفْسَخْ، عَادَ الْعَقْدُ إِلَى حُكْمِهِ، وَهُوَ اللُّزُومُ، وَهَكَذَا الزَّوْجَةُ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْوَطْءِ، كَمَا لَهُ حَقٌّ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: ٢٢٨] [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] فَجَعَلَ لَهُ الشَّارِعُ امْتِنَاعَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَا حَقَّ لَهَا فِيهِنَّ، فَإِذَا انْقَضَتِ الْمُدَّةُ عَادَتْ عَلَى حَقِّهَا بِمُوجَبِ الْعَقْدِ، وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ لَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ، وَحِينَئِذٍ فَهَذَا دَلِيلٌ تَاسِعٌ مُسْتَقِلٌّ.

الدَّلِيلُ الْعَاشِرُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لِلْمُؤْلِينَ شَيْئًا، وَعَلَيْهِمْ شَيْئَيْنِ، فَالَّذِي لَهُمْ تَرَبُّصُ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالَّذِي عَلَيْهِمْ إِمَّا الْفَيْئَةُ، وَإِمَّا الطَّلَاقُ، وَعِنْدَكُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْفَيْئَةُ فَقَطْ، وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ، بَلْ وَلَا إِلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا عُقَيْبَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، شَاءَ أَوْ أَبَى، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ إِلَى الْمُؤْلِي وَلَا عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ النَّصِّ.

قَالُوا: وَلِأَنَّهَا يَمِينٌ بِاللَّهِ تَعَالَى تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَا الطَّلَاقُ كَسَائِرِ الْأَيْمَانِ، وَلِأَنَّهَا مُدَّةٌ قَدَّرَهَا الشَّرْعُ لَمْ تَتَقَدَّمْهَا الْفُرْقَةُ، فَلَا يَقَعُ بِهَا بَيْنُونَةٌ كَأَجَلِ الْعِنِّينِ، وَلِأَنَّهُ لَفْظٌ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ الْمُعَجَّلُ، فَلَمْ يَقَعْ بِهِ الْمُؤَجَّلُ كَالظِّهَارِ، وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَنُسِخَ كَالظِّهَارِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لِلْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ، وَلِمَا كَانَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَانَتِ الْفِرَقُ الْجَاهِلِيَّةُ تَحْلِفُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ، فَنَقَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ عَمَّا كَانَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ إِيقَاعِ الْفُرْقَةِ عَلَى الزَّوْجَةِ إِلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُهُمَا فِي الشَّرْعِ،

<<  <  ج: ص:  >  >>