الْأَيْمَانُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى حُكْمُهُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ، وَأَرَادَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ حُكْمِ اللَّهِ الَّذِي فَصَلَ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَكَانَ لَهَا شَأْنٌ آخَرُ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ قَاعِدَةَ الشَّرِيعَةِ اسْتَقَرَّتْ عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَجَوَابُهُ مِنْ وُجُوهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّرِيعَةَ لَمْ تَسْتَقِرَّ عَلَى هَذَا، بَلْ قَدِ اسْتَقَرَّتْ فِي الْقَسَامَةِ بِأَنْ يُبْدَأَ بِأَيْمَانِ الْمُدَّعِينَ، وَهَذَا لِقُوَّةِ جَانِبِهِمْ بِاللَّوْثِ، وَقَاعِدَةُ الشَّرِيعَةِ أَنَّ الْيَمِينَ تَكُونُ مِنْ جَنَبَةِ أَقْوَى الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَلَمَّا كَانَ جَانِبُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَوِيًّا بِالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ شُرِعَتِ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ، فَلَمَّا قَوِيَ جَانِبُ الْمُدَّعِي فِي الْقَسَامَةِ بِاللَّوْثِ كَانَتِ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ لَمَّا قَوِيَ جَانِبُهُ بِالنُّكُولِ صَارَتِ الْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ، فَيُقَالُ لَهُ: احْلِفْ وَاسْتَحِقَّ، وَهَذَا مِنْ كَمَالِ حِكْمَةِ الشَّارِعِ وَاقْتِضَائِهِ لِلْمَصَالِحِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَلَوْ شُرِعَتِ الْيَمِينُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ دَائِمًا لَذَهَبَتْ قُوَّةُ الْجَانِبِ الرَّاجِحِ هَدَرًا، وَحِكْمَةُ الشَّارِعِ تَأْبَى ذَلِكَ، فَالَّذِي جَاءَ بِهِ هُوَ غَايَةُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ.
وَإِذَا عُرِفَ هَذَا، فَجَانِبُ الزَّوْجِ هَاهُنَا أَقْوَى مِنْ جَانِبِهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْكِرُ زِنَاهَا وَتَبْهَتُهُ، وَالزَّوْجَ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي هَتْكِ حُرْمَتِهِ وَإِفْسَادِ فِرَاشِهِ وَنِسْبَةِ أَهْلِهِ إِلَى الْفُجُورِ، بَلْ ذَلِكَ أَشْوَشُ عَلَيْهِ وَأَكْرَهُ شَيْءٍ إِلَيْهِ، فَكَانَ هَذَا لَوْثًا ظَاهِرًا، فَإِذَا انْضَافَ إِلَيْهِ نُكُولُ الْمَرْأَةِ قَوِيَ الْأَمْرُ جِدًّا فِي قُلُوبِ النَّاسِ خَاصِّهِمْ وَعَامِّهِمْ، فَاسْتَقَلَّ ذَلِكَ بِثُبُوتِ حُكْمِ الزِّنَى عَلَيْهَا شَرْعًا، فَحُدَّتْ بِلِعَانِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ تَكُنْ أَيْمَانُهُ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ الْأَرْبَعَةِ حَقِيقَةً كَانَ لَهَا أَنْ تُعَارِضَهَا بِأَيْمَانٍ أُخْرَى مِثْلِهَا يُدْرَأُ عَنْهَا بِهَا الْعَذَابُ؛ عَذَابُ الْحَدِّ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: ٢] [النُّورِ: ٢] وَلَوْ كَانَ لِعَانُهُ بَيِّنَةً حَقِيقَةً لَمَا دَفَعَتْ أَيْمَانُهَا عَنْهَا شَيْئًا، وَهَذَا يَتَّضِحُ بِالْفَصْلِ الثَّانِي الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا لَمْ تَلْتَعِنْ فَهَلْ تُحَدُّ أَوْ تُحْبَسُ حَتَّى تُقِرَّ أَوْ تُلَاعِنَ؟ فِيهِ قَوْلَانِ لِلْفُقَهَاءِ:
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ: تُحَدُّ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute