للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: ٢] [النُّورِ: ٢] ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: ٨] فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْمَشْهُودُ، مَكَّنَهَا مِنْ دَفْعِهِ بِلِعَانِهَا، فَأَيْنَ هُنَا عَذَابُ غَيْرِهِ حَتَّى تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ؟ وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ، وَلَا نَرْتَضِي إِلَّا إِيَّاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ بَعْدَ قَذْفِهِ فَمَا حُكْمُ نُكُولِهِ؟

قُلْنَا: يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ومالك وأحمد وَأَصْحَابِهِمْ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أبو حنيفة، وَقَالَ: يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ الزَّوْجَةُ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ هَلْ هُوَ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، أَوْ مُوجَبُهُ اللِّعَانُ نَفْسُهُ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ أبي حنيفة، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: ٤] [النُّورِ: ٤] وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهلال بن أمية: ( «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ) وَبُقُولِهِ لَهُ: ( «عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» ) وَهَذَا قَالَهُ لهلال بن أمية قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي اللِّعَانِ. فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا مَعْنًى، وَبِأَنَّهُ قَذَفَ حُرَّةً عَفِيفَةً يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَوَدُ فَحُدَّ بِقَذْفِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِأَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ لِعَانِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمَا وَجَبَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ، وأبو حنيفة يَقُولُ: قَذْفُهُ لَهَا دَعْوَى تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ؛ إِمَّا لِعَانُهُ وَإِمَّا إِقْرَارُهَا، فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ، إِلَّا أَنْ تُقِرَّ فَيَزُولَ مُوجَبُ الدَّعْوَى، وَهَذَا بِخِلَافِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدَ الْمَقْذُوفَةِ، فَكَانَ قَاذِفًا مَحْضًا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: بَلْ قَذْفُهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>