دَعَاهُ، وَإِنَّكُمْ لَا تُوجِبُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا يَجِبُ نَظِيرُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ؟ وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الصِّلَةُ تَرْكَ ضَرْبِهِ وَسَبِّهِ وَأَذَاهُ وَالْإِزْرَاءِ بِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، بَلْ لِلذِّمِّيِّ الْبَعِيدِ عَلَى الْمُسْلِمِ، فَمَا خُصُوصِيَّةُ صِلَةِ الرَّحِمِ الْوَاجِبَةِ؟ وَلِهَذَا كَانَ بَعْضُ فُضَلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقُولُ: أَعْيَانِي أَنْ أَعْرِفَ صِلَةَ الرَّحِمِ الْوَاجِبَةَ. وَلَمَّا أَوْرَدَ النَّاسُ هَذَا عَلَى أَصْحَابِ مالك وَقَالُوا لَهُمْ: مَا مَعْنَى صِلَةِ الرَّحِمِ عِنْدَكُمْ؟ صَنَّفَ بَعْضُهُمْ فِي صِلَةِ الرَّحِمِ كِتَابًا كَبِيرًا، وَأَوْعَبَ فِيهِ مِنَ الْآثَارِ الْمَرْفُوعَةِ وَالْمَوْقُوفَةِ، وَذَكَرَ جِنْسَ الصِّلَةِ وَأَنْوَاعَهَا وَأَقْسَامَهَا، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَتَخَلَّصْ مِنْ هَذَا الْإِلْزَامِ، فَإِنَّ الصِّلَةَ مَعْرُوفَةٌ يَعْرِفُهَا الْخَاصُّ وَالْعَامُّ، وَالْآثَارُ فِيهَا أَشْهَرُ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَكِنْ مَا الصِّلَةُ الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا الرَّحِمُ وَتَجِبُ لَهُ الرَّحْمَةُ وَلَا يُشَارِكُهُ فِيهَا الْأَجْنَبِيُّ؟ فَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تُعَيِّنُوا وُجُوبَ شَيْءٍ إِلَّا وَكَانَتِ النَّفَقَةُ أَوْجَبَ مِنْهُ، وَلَا يُمْكِنُكُمْ أَنْ تَذْكُرُوا مُسْقِطًا لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ إِلَّا وَكَانَ مَا عَدَاهَا أَوْلَى بِالسُّقُوطِ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَرَنَ حَقَّ الْأَخِ وَالْأُخْتِ بِالْأَبِ وَالْأُمِّ فَقَالَ: ( «أُمَّكَ وَأَبَاكَ، وَأُخْتَكَ وَأَخَاكَ، ثُمَّ أَدْنَاكَ فَأَدْنَاكَ» ) فَمَا الَّذِي نَسَخَ هَذَا، وَمَا الَّذِي جَعَلَ أَوَّلَهُ لِلْوُجُوبِ وَآخِرَهُ لِلِاسْتِحْبَابِ؟ وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَلَيْسَ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ أَنْ يَدَعَ الرَّجُلُ أَبَاهُ يَكْنُسُ الْكُنُفَ، وَيُكَارِي عَلَى الْحُمُرِ، وَيُوقِدُ فِي أَتُّونِ الْحَمَّامِ، وَيَحْمِلُ لِلنَّاسِ عَلَى رَأْسِهِ مَا يَتَقَوَّتُ بِأُجْرَتِهِ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْغِنَى وَالْيَسَارِ وَسَعَةِ ذَاتِ الْيَدِ، وَلَيْسَ مِنْ بِرِّ أُمِّهِ أَنْ يَدَعَهَا تَخْدُمُ النَّاسَ، وَتَغْسِلُ ثِيَابَهُمْ، وَتُسْقِي لَهُمُ الْمَاءَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَا يَصُونُهَا بِمَا يُنْفِقُهُ عَلَيْهَا، وَيَقُولُ: الْأَبَوَانِ مُكْتَسِبَانِ صَحِيحَانِ وَلَيْسَا بِزَمِنَيْنِ وَلَا أَعْمَيَيْنِ، فَيَاللَّهِ الْعَجَبُ: أَيْنَ شَرْطُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمْ زَمِنًا أَوْ أَعْمَى، وَلَيْسَتْ صِلَةُ الرَّحِمِ وَلَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مَوْقُوفَةً عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا وَلَا لُغَةً وَلَا عُرْفًا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute