للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَايَةُ اجْتِهَادِهِ أَنْ يَفْهَمَ مَا فَهِمُوهُ وَيَعْرِفَ مَا قَالُوهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْتَجِعَهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمُدَّةِ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ، فَلِمَ قَيَّدَ التَّخْيِيرَ بِبُلُوغِ الْأَجَلِ؟ قِيلَ: لِيَتَبَيَّنَ أَنَّهَا فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ كَانَتْ مُتَرَبِّصَةً لِأَجْلِ حَقِّ الزَّوْجِ، وَالتَّرَبُّصُ الِانْتِظَارُ، وَكَانَتْ مُنْتَظِرَةً هَلْ يُمْسِكُهَا، أَوْ يُسَرِّحُهَا؟ ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ ثَابِتٌ لَهُ مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّةِ إِلَى آخِرِهَا، كَمَا خُيِّرَ الْمُؤْلِي بَيْنَ الْفَيْئَةِ وَعَدَمِ الطَّلَاقِ، وَهُنَا لَمَّا خَيَّرَهُ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ كَانَ تَخْيِيرُهُ قَبْلَهُ أَوْلَى وَأَحْرَى، لَكِنَّ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ إِنَّمَا يُمْكِنُ إِذَا بَلَغَتِ الْأَجَلَ، وَقَبْلَ ذَلِكَ هِيَ فِي الْعِدَّةِ.

وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ تَسْرِيحَهَا بِإِحْسَانٍ مُؤَثِّرٌ فِيهَا حِينَ تَنْقَضِي الْعِدَّةُ، وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ التَّسْرِيحَ بِإِحْسَانٍ عِنْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا التَّرْكَ ثَابِتٌ مِنْ أَوَّلِ الْمُدَّةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّ التَّسْرِيحَ إِرْسَالُهَا إِلَى أَهْلِهَا بَعْدَ بُلُوغِ الْأَجَلِ وَرَفْعِ يَدِهِ عَنْهَا، فَإِنَّهُ كَانَ يَمْلِكُ حَبْسَهَا مُدَّةَ الْعِدَّةِ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَجَلَهَا فَحِينَئِذٍ إِنْ أَمْسَكَهَا كَانَ لَهُ حَبْسُهَا وَإِنْ لَمْ يُمْسِكْهَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُسَرِّحَهَا بِإِحْسَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الْمَسِيسِ {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: ٤٩] [الْأَحْزَابِ ٤٩] فَأَمَرَ بِالسَّرَاحِ الْجَمِيلِ وَلَا عِدَّةَ، فَعُلِمَ أَنَّ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهَا إِرْسَالُهَا كَمَا يُقَالُ سَرَّحَ الْمَاءَ وَالنَّاقَةَ إِذَا مَكَّنَهَا مِنَ الذَّهَابِ، وَبِهَذَا الْإِطْلَاقِ وَالسَّرَاحِ يَكُونُ قَدْ تَمَّ تَطْلِيقُهَا وَتَخْلِيَتُهَا، وَقَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْإِطْلَاقُ تَامًّا، وَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهَا وَأَنْ يُسَرِّحَهَا، وَكَانَ مَعَ كَوْنِهِ مُطَلِّقًا قَدْ جُعِلَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ، وَجُعِلَ التَّرَبُّصُ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ لِأَجْلِهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا أَشْيَاءُ.

أَحَدُهَا: أَنَّ الشَّارِعَ جَعَلَ عِدَّةَ الْمُخْتَلِعَةِ حَيْضَةً كَمَا ثَبَتَتْ بِهِ السُّنَّةُ وَأَقَرَّ بِهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَحَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ فِي " نَاسِخِهِ وَمَنْسُوخِهِ " إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ إسحاق وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ دَلِيلًا كَمَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ عَنْ قُرْبٍ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُخْتَلِعَةِ رَجْعَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ، بَلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>