قَالَ أبو عمر: وَهَذَا عِنْدِي وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مُخَالِفًا لِحَدِيثِهَا الْآخَرِ لِمَا فِيهِ مِنْ إِبَاحَتِهِ بِاللَّيْلِ وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ " لَا " مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا عَلَى الْإِطْلَاقِ أَنَّ تَرْتِيبَ الْحَدِيثَيْنِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ عَلَى أَنَّ الشَّكَاةَ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا لَمْ تَبْلُغْ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْهَا مَبْلَغًا لَا بُدَّ لَهَا فِيهِ مِنَ الْكُحْلِ؛ فَلِذَلِكَ نَهَاهَا، وَلَوْ كَانَتْ مُحْتَاجَةً مُضْطَرَّةً تَخَافُ ذَهَابَ بَصَرِهَا لَأَبَاحَ لَهَا ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ بِالَّتِي قَالَ لَهَا: ( «اجْعَلِيهِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ بِالنَّهَارِ» ) وَالنَّظَرُ يَشْهَدُ لِهَذَا التّأْوِيلِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تَنْقُلُ الْمَحْظُورَاتِ إِلَى حَالِ الْمُبَاحِ فِي الْأُصُولِ، وَلِهَذَا جَعَلَ مالك فَتْوَى أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْسِيرًا لِلْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ فِي الْكُحْلِ؛ لِأَنَّ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَوَتْهُ وَمَا كَانَتْ لِتُخَالِفَهُ إِذَا صَحَّ عِنْدَهَا وَهِيَ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ وَمَخْرَجِهِ، وَالنَّظَرُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُضْطَرَّ إِلَى شَيْءٍ لَا يُحْكَمُ لَهُ بِحُكْمِ الْمُرَفَّهِ الْمُتَزَيِّنِ بِالزِّينَةِ، وَلَيْسَ الدَّوَاءُ وَالتَّدَاوِي مِنَ الزِّينَةِ فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا نُهِيَتِ الْحَادَّةُ عَنِ الزِّينَةِ لَا عَنِ التَّدَاوِي، وأم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَعْلَمُ بِمَا رَوَتْ مَعَ صِحَّتِهِ فِي النَّظَرِ، وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْفِقْهِ وَبِهِ قَالَ مالك وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مالك رَحِمَهُ اللَّهُ فِي " مُوَطَّئِهِ " أَنَّهُ بَلَغَهُ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ فِي الْمَرْأَةِ يُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا: إِنَّهَا إِذَا خَشِيَتْ عَلَى بَصَرِهَا مِنْ رَمَدٍ بِعَيْنَيْهَا، أَوْ شَكْوَى أَصَابَتْهَا أَنَّهَا تَكْتَحِلُ وَتَتَدَاوَى بِالْكُحْلِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ.
قَالَ أبو عمر: لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى التَّدَاوِي لَا إِلَى التَّطَيُّبِ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الصَّبْرُ يُصَفَّرُ فَيَكُونُ زِينَةً وَلَيْسَ بِطِيبٍ، وَهُوَ كُحْلُ الْجَلَاءِ، فَأَذِنَتْ أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِلْمَرْأَةِ بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا تُرَى، وَتَمْسَحُهُ بِالنَّهَارِ حَيْثُ يُرَى، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ.
وَقَالَ أبو محمد بن قدامة فِي " الْمُغْنِي ": وَإِنَّمَا تُمْنَعُ الْحَادَّةُ مِنَ الْكُحْلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute