للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّنَنُ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ.

أَحَدُهَا: تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكَلْبِ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ كَلْبٍ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا لِلصَّيْدِ، أَوْ لِلْمَاشِيَةِ، أَوْ لِلْحَرْثِ، وَهَذَا مَذْهَبُ فُقَهَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ قَاطِبَةً، وَالنِّزَاعُ فِي ذَلِكَ مَعْرُوفٌ عَنْ أَصْحَابِ مالك، وأبي حنيفة، فَجَوَّزَ أَصْحَابُ أبي حنيفة بَيْعَ الْكِلَابِ، وَأَكْلَ أَثْمَانِهَا، وَقَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيْعِ مَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ مِنَ الْكِلَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُكْرَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يَحْرُمُ، انْتَهَى.

وَعَقَدَ بَعْضُهُمْ فَصْلًا لِمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَبَنَى عَلَيْهِ اخْتِلَافَهُمْ فِي بَيْعِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: مَا كَانَتْ مَنَافِعُهُ كُلُّهَا مُحَرَّمَةً لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ، إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَعْدُومِ حِسًّا، وَالْمَمْنُوعِ شَرْعًا، وَمَا تَنَوَّعَتْ مَنَافِعُهُ إِلَى مُحَلَّلَةٍ وَمُحَرَّمَةٍ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْعَيْنِ خَاصَّةً، كَانَ الِاعْتِبَارُ بِهَا - وَالْحُكْمُ تَابِعٌ لَهَا - فَاعْتُبِرَ نَوْعُهَا، وَصَارَ الْآخَرُ كَالْمَعْدُومِ. وَإِنْ تَوَزَّعَتْ فِي النَّوْعَيْنِ، لَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ مَا حَرُمَ مِنْهَا أَكْلُ مَالٍ بِالْبَاطِلِ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ بَقِيَّةِ الثَّمَنِ يَصِيرُ مَجْهُولًا.

قَالَ: وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةُ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ، فَإِذَا بُنِيَ الْخِلَافُ فِيهَا عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، قِيلَ: فِي الْكَلْبِ مِنَ الْمَنَافِعِ كَذَا وَكَذَا، وَعُدِّدَتْ جُمْلَةُ مَنَافِعِهِ، ثُمَّ نُظِرَ فِيهَا، فَمَنْ رَأَى أَنَّ جُمْلَتَهَا مُحَرَّمَةٌ، مَنَعَ، وَمَنْ رَأَى جَمِيعَهَا مُحَلَّلَةً، أَجَازَ، وَمَنْ رَآهَا مُتَنَوِّعَةً، نَظَرَ: هَلِ الْمَقْصُودُ الْمُحَلَّلُ، أَوِ الْمُحَرَّمُ، فَجَعَلَ الْحُكْمَ لِلْمَقْصُودِ، وَمَنْ رَأَى مَنْفَعَةً وَاحِدَةً مِنْهَا مُحَرَّمَةً وَهِيَ مَقْصُودَةٌ، مَنَعَ أَيْضًا، وَمَنِ الْتَبَسَ عَلَيْهِ كَوْنُهَا مَقْصُودَةً، وَقَفَ أَوْ كَرِهَ، فَتَأَمَّلْ هَذَا التَّأْصِيلَ وَالتَّفْصِيلَ، وَطَابِقْ بَيْنَهُمَا يَظْهَرْ لَكَ مَا فِيهِمَا مِنَ التَّنَاقُضِ وَالْخَلَلِ، وَأَنَّ بِنَاءَ بَيْعِ كَلْبِ الصَّيْدِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مِنْ أَفْسَدِ الْبِنَاءِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مَنْ رَأَى أَنَّ جُمْلَةَ مَنَافِعِ كَلْبِ الصَّيْدِ مُحَرَّمَةٌ بَعْدَ

<<  <  ج: ص:  >  >>