للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْجُلُوسِ فِي رَحْبَةٍ أَوْ طَرِيقٍ وَاسِعَةٍ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مَا دَامَ جَالِسًا، فَإِذَا اسْتَغْنَى عَنْهَا، وَأَجَّرَ مَقْعَدَهُ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُبَاحَةُ إِذَا كَانَ فِيهَا كَلَأٌ أَوْ عُشْبٌ، فَسَبَقَ بِدَوَابِّهِ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقُّ بِرَعْيِهِ مَا دَامَتْ دَوَابُّهُ فِيهِ، فَإِذَا طُلِبَ الْخُرُوجُ مِنْهَا، وَبِيعَ مَا فَضَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَهَكَذَا هَذَا الْمَاءُ سَوَاءٌ، فَإِنَّهُ إِذَا فَارَقَ أَرْضَهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ، وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَأِ الَّذِي لَا اخْتِصَاصَ لَهُ بِهِ، وَلَا هُوَ فِي أَرْضِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ هَذَا الْمَاءَ فِي نَفْسِ أَرْضِهِ، فَهُوَ مَنْفَعَةٌ مِنْ مَنَافِعِهَا، فَمَلَكَهُ بِمِلْكِهَا كَسَائِرِ مَنَافِعِهَا بِخِلَافِ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ الصُّوَرِ، فَإِنَّ تِلْكَ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ مِنْ مِلْكِهِ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ وَالتَّقْدِيمِ إِذَا سَبَقَ خَاصَّةً.

قِيلَ: هَذِهِ النُّكْتَةُ الَّتِي لِأَجْلِهَا جَوَّزَ مَنْ جَوَّزَ بَيْعَهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ حَقًّا مِنْ حُقُوقِ أَرْضِهِ، فَمَلَكَ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ وَحْدَهُ كَمَا يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَةَ عَلَيْهِ مَعَ الْأَرْضِ، فَيُقَالُ: حَقُّ أَرْضِهِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا فِي مِلْكِ الْعَيْنِ الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِيهَا بِوَصْفِ الِاشْتِرَاكِ، وَجَعَلَ حَقَّهُ فِي تَقْدِيمِ الِانْتِفَاعِ عَلَى غَيْرِهِ فِي التَّحَجُّرِ وَالْمُعَاوَضَةِ، فَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَحِكْمَتُهُ وَاشْتِمَالُهُ عَلَى مَصَالِحِ الْعَالَمِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا دَخَلَ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَأَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا، مَلَكَهُ، لِأَنَّهُ مُبَاحٌ فِي الْأَصْلِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ عَشَّشَ فِي أَرْضِهِ طَائِرٌ، أَوْ حَصَلَ فِيهَا ظَبْيٌ، أَوْ نَضَبَ مَاؤُهَا عَنْ سَمَكٍ، فَدَخَلَ إِلَيْهِ فَأَخَذَهُ.

فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ دُخُولِ مِلْكِهِ، وَهَلْ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ؟

قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لَا يَجُوزُ لَهُ دُخُولُ مِلْكِهِ لِأَخْذِ ذَلِكَ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، وَهَذَا لَا أَصْلَ لَهُ فِي كَلَامِ الشَّارِعِ، وَلَا فِي كَلَامِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، بَلْ قَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى جَوَازِ الرَّعْيِ فِي أَرْضٍ غَيْرِ مُبَاحَةٍ مَعَ أَنَّ الْأَرْضَ لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ وَلَا مُسْتَأْجَرَةً، وَدُخُولُهَا لِغَيْرِ الرَّعْيِ مَمْنُوعٌ مِنْهُ. فَالصَّوَابُ أَنَّهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>