للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَقِفُ الْأَرْضَ؛ لِيَنْتَفِعَ أَهْلُ الْوَقْفِ بِغَلَّتِهَا، وَيَجُوزُ إِعَارَةُ الشَّجَرَةِ، كَمَا يَجُوزُ إِعَارَةُ الظَّهْرِ، وَعَارِيَّةُ الدَّارِ، وَمَنِيحَةُ اللَّبَنِ، وَهَذَا كُلُّهُ تَبَرُّعٌ بِنَمَاءِ الْمَالِ وَفَائِدَتِهِ، فَإِنَّ مَنْ دَفَعَ عَقَارَهُ إِلَى مَنْ يَسْكُنُهُ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ دَابَّتَهُ إِلَى مَنْ يَرْكَبُهَا، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَجَرَةً إِلَى مَنْ يَسْتَثْمِرُهَا، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ أَرْضَهُ إِلَى مَنْ يَزْرَعُهَا، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ دَفَعَ شَاتَهُ إِلَى مَنْ يَشْرَبُ لَبَنَهَا، فَهَذِهِ الْفَوَائِدُ تَدْخُلُ فِي عُقُودِ التَّبَرُّعِ، سَوَاءٌ كَانَ الْأَصْلُ مُحَبَّسًا بِالْوَقْفِ، أَوْ غَيْرَ مُحَبَّسٍ. وَيَدْخُلُ أَيْضًا فِي عُقُودِ الْمُشَارَكَاتِ، فَإِنَّهُ إِذَا دَفَعَ شَاةً، أَوْ بَقَرَةً، أَوْ نَاقَةً إِلَى مَنْ يَعْمَلُ عَلَيْهَا بِجُزْءٍ مِنْ دَرِّهَا وَنَسْلِهَا صَحَّ عَلَى أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أحمد، فَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعُقُودِ لِلْإِجَارَاتِ.

يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنَّ الْأَعْيَانَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ لَا يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا، بَلْ إِذَا ذَهَبَ ذَهَبَ جُمْلَةً، وَنَوْعٌ يُسْتَخْلَفُ شَيْئًا فَشَيْئًا، كُلَّمَا ذَهَبَ مِنْهُ شَيْءٌ خَلَفَهُ شَيْءٌ مِثْلُهُ، فَهَذَا رُتْبَةٌ وُسْطَى بَيْنَ الْمَنَافِعِ وَبَيْنَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا تُسْتَخْلَفُ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُنْظَرَ فِي شَبَهِهِ بِأَيِّ النَّوْعَيْنِ، فَيُلْحَقَ بِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شَبَهَهُ بِالْمَنَافِعِ أَقْوَى، فَإِلْحَاقُهُ بِهَا أَوْلَى.

يُوَضِّحُهُ الْوَجْهُ الرَّابِعُ: وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ نَصَّ فِي كِتَابِهِ عَلَى إِجَارَةِ الظِّئْرِ، وَسَمَّى مَا تَأْخُذُهُ أَجْرًا، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ إِجَارَةٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فِي شَرِيعَتِنَا إِلَّا إِجَارَةَ الظِّئْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: ٦] [الطَّلَاقِ: ٦] .

قَالَ شَيْخُنَا: وَإِنَّمَا ظَنُّ الظَّانِّ أَنَّهَا خِلَافُ الْقِيَاسِ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَنْفَعَةٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلِ الْإِجَارَةُ تَكُونُ عَلَى كُلِّ مَا يُسْتَوْفَى مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَيْنًا أَوْ مَنْفَعَةً، كَمَا أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ هِيَ الَّتِي تُوقَفُ وَتُعَارُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَعِيرُ بِلَا عِوَضٍ يَسْتَوْفِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ وَبِالْعِوَضِ، فَلَمَّا كَانَ لَبَنُ الظِّئْرِ مُسْتَوْفًى مَعَ بَقَاءِ الْأَصْلِ جَازَتِ الْإِجَارَةُ عَلَيْهِ، كَمَا جَازَتْ عَلَى الْمَنْفَعَةِ، وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ يُحْدِثُهَا اللَّهُ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَأَصْلُهَا بَاقٍ كَمَا يُحْدِثُ اللَّهُ الْمَنَافِعَ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ، وَأَصْلُهَا بَاقٍ.

<<  <  ج: ص:  >  >>