عطاء، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: كَانَتْ لِدَاوُدَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِعْزَفَةٌ يَتَغَنَّى عَلَيْهَا يَبْكِي وَيُبْكِي. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الزَّبُورَ بِسَبْعِينَ لَحْنًا، تَكُونُ فِيهِنَّ، وَيَقْرَأُ قِرَاءَةً يُطْرِبُ مِنْهَا الْجُمُوعَ.
وَسُئِلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ تَأْوِيلِ ابْنِ عُيَيْنَةَ فَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَذَا، لَوْ أَرَادَ بِهِ الِاسْتِغْنَاءَ، لَقَالَ: " مَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بِالْقُرْآنِ "، وَلَكِنْ لَمَّا قَالَ: (يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ) ، عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ التَّغَنِّيَ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ تَزْيِينَهُ، وَتَحْسِينَ الصَّوْتِ بِهِ وَالتَّطْرِيبَ بِقِرَاءَتِهِ أَوْقَعُ فِي النُّفُوسِ وَأَدْعَى إِلَى الِاسْتِمَاعِ وَالْإِصْغَاءِ إِلَيْهِ، فَفِيهِ تَنْفِيذٌ لِلَفْظِهِ إِلَى الْأَسْمَاعِ، وَمَعَانِيهِ إِلَى الْقُلُوبِ، وَذَلِكَ عَوْنٌ عَلَى الْمَقْصُودِ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَاوَةِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِتُنْفِذَهُ إِلَى مَوْضِعِ الدَّاءِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَفَاوِيهِ وَالطِّيبِ الَّذِي يُجْعَلُ فِي الطَّعَامِ، لِتَكُونَ الطَّبِيعَةُ أَدْعَى لَهُ قَبُولًا وَبِمَنْزِلَةِ الطِّيبِ وَالتَّحَلِّي وَتَجَمُّلِ الْمَرْأَةِ لِبَعْلِهَا لِيَكُونَ أَدْعَى إِلَى مَقَاصِدِ النِّكَاحِ. قَالُوا: وَلَا بُدَّ لِلنَّفْسِ مِنْ طَرَبٍ وَاشْتِيَاقٍ إِلَى الْغِنَاءِ فَعُوِّضَتْ عَنْ طَرَبِ الْغِنَاءِ بِطَرَبِ الْقُرْآنِ كَمَا عُوِّضَتْ عَنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ وَمَكْرُوهٍ بِمَا هُوَ خَيْرٌ لَهَا مِنْهُ، وَكَمَا عُوِّضَتْ عَنِ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ بِالِاسْتِخَارَةِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ التَّوْحِيدِ وَالتَّوَكُّلِ، وَعَنِ السِّفَاحِ بِالنِّكَاحِ، وَعَنِ الْقِمَارِ بِالْمُرَاهَنَةِ بِالنِّصَالِ، وَسِبَاقِ الْخَيْلِ، وَعَنِ السَّمَاعِ الشَّيْطَانِيِّ بِالسَّمَاعِ الرَّحْمَانِيِّ الْقُرْآنِيِّ، وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ جِدًّا.
قَالُوا: وَالْمُحَرَّمُ، لَا بُدَّ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى مَفْسَدَةٍ رَاجِحَةٍ أَوْ خَالِصَةٍ، وَقِرَاءَةُ التَّطْرِيبِ وَالْأَلْحَانِ لَا تَتَضَمَّنُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنِّهَا لَا تُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ وَضْعِهِ وَلَا تَحُولُ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهِ، وَلَوْ كَانَتْ مُتَضَمِّنَةً لِزِيَادَةِ الْحُرُوفِ كَمَا ظَنَّ الْمَانِعُ مِنْهَا لَأَخْرَجَتِ الْكَلِمَةَ عَنْ مَوْضِعِهَا وَحَالَتْ بَيْنَ السَّامِعِ وَبَيْنَ فَهْمِهَا وَلَمْ يَدْرِ مَا مَعْنَاهَا، وَالْوَاقِعُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَهَذَا التَّطْرِيبُ وَالتَّلْحِينُ أَمْرٌ رَاجِعٌ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْأَدَاءِ، وَتَارَةً يَكُونُ سَلِيقَةً وَطَبِيعَةً، وَتَارَةً يَكُونُ تَكَلُّفًا وَتَعَمُّلًا، وَكَيْفِيَّاتُ الْأَدَاءِ لَا تُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنْ وَضْعِ مُفْرَدَاتِهِ، بَلْ هِيَ صِفَاتٌ لِصَوْتِ الْمُؤَدِّي جَارِيَةٌ مَجْرَى تَرْقِيقِهِ وَتَفْخِيمِهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute