فَسَخَ مِنْهُمْ حَجَّةٌ إِلَيْهَا لِلْأَبَدِ، وَأَنَّ الْعُمْرَةَ دَخَلَتْ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ عُمْرَةَ التّمَتَّعِ بَعْضُ الْحَجِّ.
وَقَدِ اعْتَرَضَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ: " بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ " بِاعْتِرَاضَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ، أَنَّ سُقُوطَ الْفَرْضِ بِهَا لَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْعَامِ، بَلْ يُسْقِطُهُ إِلَى الْأَبَدِ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرَادَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: لِلْأَبَدِ، فَإِنَّ الْأَبَدَ لَا يَكُونُ فِي حَقِّ طَائِفَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بَلْ إِنَّمَا يَكُونُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلِأَنَّهُ قَالَ: "دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ "، وَلِأَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ السُّؤَالَ عَنْ تَكْرَارِ الْوُجُوبِ، لَمَا اقْتَصَرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ، بَلْ كَانَ السُّؤَالُ عَنِ الْحَجِّ، وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: " «عُمْرَتُنَا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا، أَمْ لِلْأَبَدِ» ؟ " وَلَوْ أَرَادُوا تَكْرَارَ وُجُوبِهَا كُلَّ عَامٍ لَقَالُوا لَهُ، كَمَا قَالُوا لَهُ فِي الْحَجِّ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَلَأَجَابَهُمْ بِمَا أَجَابَهُمْ بِهِ فِي الْحَجِّ بِقَوْلِهِ: " «ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ. لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ» ". وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: هَذِهِ لَكُمْ خَاصَّةً، فَقَالَ: " بَلْ لِأَبَدِ الْأَبَدِ ". فَهَذَا السُّؤَالُ وَالْجَوَابُ صَرِيحَانِ فِي عَدَمِ الِاخْتِصَاصِ.
الثَّانِي: قَوْلُهُ: إِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ جَوَازَ الِاعْتِمَارِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ أَبْطَلُ مِنَ الَّذِي قَبْلَهُ، فَإِنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ عَنِ الْمُتْعَةِ الَّتِي هِيَ فَسْخُ الْحَجِّ، لَا عَنْ جَوَازِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَقِبَ أَمْرِهِ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِفَسْخِ الْحَجِّ، فَقَالَ لَهُ سراقة حِينَئِذٍ: هَذَا لِعَامِنَا، أَمْ لِلْأَبَدِ؟ فَأَجَابَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ نَفْسِ مَا سَأَلَهُ عَنْهُ، لَا عَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُ عَنْهُ، وَفِي قَوْلِهِ: " «دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» " عَقِبَ أَمْرِهِ مَنْ لَا هَدْيَ مَعَهُ بِالْإِحْلَالِ، بَيَانٌ جَلِيٌّ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَبَطَلَ دَعْوَى الْخُصُوصِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
السَّادِسُ: أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَلَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَيْهَا، فَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً بَطَلَ اعْتِرَاضُكُمْ بِهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً، فَإِنَّهَا لَا تَلْزَمُ الِاخْتِصَاصَ بِالصَّحَابَةِ بِوَجْهٍ، مِنَ الْوُجُوهِ بَلْ إِنْ صَحَّتِ اقْتَضَتْ دَوَامَ مَعْلُولِهَا وَاسْتِمْرَارَهُ، كَمَا أَنَّ الرَّمَلَ شُرِعَ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ وَقُوَّةَ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَمَرَّتْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute