ذلكم من الشاهدين الذين يدلون بالحجة على كلامهم، ويصححون دعواهم بالبرهان كما تصحح الدعوة بالشهادة، فأنا لست مثلكم إذ سندكم الوحيد، وحجتكم في عبادة الأصنام أنكم تقلدون آباءكم، ألا بئس ما تفعلون!! ولقد أضمر إبراهيم الشر في نفسه لهذه الآلهة، وأقسم بالله لا بد أن يلحق بها الأذى، وهذه طريقة أراد بها أن يفهم القوم مركز آلهتهم حيث لم تدفع عن نفسها ضررا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «١» ، وأن يقيم الحجة عملا على أنها لا يمكن أن تلحق بهم أذى إذا تركوا عبادتها، أو تكسبهم خيرا إذا عبدوها، والبرهان العملي أوقع في النفس وأبعد عن التأويل والشك حيث لم يجد المنطق.
وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات آية ٨٩] .
فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى: كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، ويحملونه تبعة ذلك، ويسألونه أين كنت؟ ولماذا كسرت تلك الأصنام؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك، ولعل المعنى: لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم.
ولما رأوا ذلك، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم.
قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له: إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل.
قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.