والسلف- رضوان الله عليهم- يفهمون في مثل هذه الآيات المعنى العام والغرض من السياق، مع تنزيه المولى- جل شأنه- عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح له، ويكلون أمر ذلك لله قائلين: إن معرفة حقيقة «اليد» التي وردت هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات، وأنى لمخلوق ذلك؟ وهيهات ثم هيهات له ذلك! فالأولى التفويض لعلام الغيوب مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة.
وأما الخلف فيؤولون ذلك بأن في الآية استعارة «١» أو المراد باليد القوة لا الجارحة والمعنى: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فثق بالله وحده فالنصر من عنده لا من عند غيره، أو المعنى: نعمة الله عليهم بالهداية، وتوفيقهم لمبايعتك فوق مبايعتهم ونصرتهم لك وهذا على أن اليد تطلق أيضا على النعمة لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [سورة الحجرات آية ١٧] .
وإذا كان الأمر كذلك فمن نكث العهد ونقضه فإنما وبال إثمه وعاقبة فعله على نفسه فقط لا على غيره، ومن أتم عهده وأدى واجبه كاملا فله جزاء الحسنى، وسيؤتيه ربك أجرا عظيما، حتى يرضى.
روى الشيخان عن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: «على أى شيء بايعتم رسول الله؟ قال: على الموت» ... وروى مسلم عن معقل بن يسار قال:«لقد رأيتنى يوم الشجرة- التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية- والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر» قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين. فجماعة كانت مع سلمة وجماعة مع معقل.
(١) - بالكناية في لفظ الجلالة حيث شبه بالمبايع وذكر اليد قرينة وإسنادها له تخييل، وفي ذكر اليد مع أيدى الناس مشاكلة، ويقول علماء البلاغة: إن في الآيات محسنات بلاغية كثيرة.