للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وفي الواقع ليس فيهم جنون حقيقة بل وصفوا به من حيث إعراضهم عن الحق واتباعهم الهوى والباطل: ولا شك أن من كان كذلك كان جديرا بالجنون، وحيث نصر الله عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده علموا وعلم الكل أنهم كانوا كالمجانين حين كذبوا وكفروا، لا عجب في ذلك الحكم فربك هو أعلم- لا يعلم غيره- بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، إذ هو خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، فهو تعالى يعلم الذين حادوا عن السبيل، أو هدوا إلى صراط العزيز الحميد.

إذا كان الأمر كذلك فلا تطع المكذبين بحال من الأحوال في أى شيء يطلبونه، إنهم ودوا من صميم قلوبهم لو تداهن في أمر يطلبونه، فهم يدهنون «١» كذلك، أى:

يكافئونك على ملاينتك لهم.

كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول الدعوة يقف وحده أمام قوى الأعداء المتكاثرة ومع هذا كانوا يعرضون على النبي أن يلاينهم نوعا ما فلا يذم آلهتهم، ولا يسفه أحلامهم وهم لذلك لا يهاجمون المسلمين، وربما وقع في نفس النبي بعض الشيء من هذا الكلام فجاءت هذه الآية فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ شحنا للعزائم، وإلهابا للهمة، بعد أن ذكره ربه في فاتحة السورة بما كان يصفه به أولئك المشركون من أنه مجنون وأفاك أثيم، فكيف بعد هذا يصانعهم أو يمالئهم، كان هذا تعليما إلهيا للنبي ولأصحاب الدعوات، إذ هذا غالبا ما يؤخذ سلاحا يطعن به الأشراف والأبرياء وأصحاب الدعوات، وهذا نهى للنبي عن إطاعة الكفار المكذبين مطلقا، ثم نهاه عن إطاعة نوع خاص فيه صفات خاصة، كل واحدة كفيلة بالتحذير من الطاعة، وهذه اجتمعت في الوليد بن المغيرة على الصحيح، وقيل: في غيره.

ولا تطع كل حلاف كثير الحلف باليمين، فإنه لا يكثر الحلف إلا إذا كان معتقدا أن مخاطبه لا يصدقه، ولا بد أن يكون كذابا بينه وبين نفسه وبينه وبين ربه.

مَهِينٍ أى: ذليل حقير في عقله ورأيه، لا في شخصه وماله. هَمَّازٍ:

كثير الهمز واللمز، والطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشى بين الناس بالسعاية والفساد وإيقاع العداوة والبغضاء. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع


(١) - جملة (ودوا لو تدهن) تعليل للنهى قبله، فيدهنون: الفاء للسببية، ويدهنون خبر لمبتدأ محذوف، وعطف هذه الجملة على ما قبلها عطف مسبب على سبب.

<<  <  ج: ص:  >  >>