وكما أرينا إبراهيم الحق في شأن أبيه وقومه، وأنهم على ضلال مبين أريناه المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض، فاطلع على أسرار الخلق وخفايا الكون، وهل يعرف ملكوته إلا هو، وهل وقف العلماء بمراصدهم ومكبراتهم وآلاتهم الحديثة إلا على ما يوازى حبة في صحراء بالنسبة إلى ملكوت الله؟
أرينا إبراهيم الملكوت وما فيه من أسرار العظمة، وبديع النظام، وقوة التدبير، وعظمة الخلق صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ليعرف إبراهيم نواحي العظمة وسنن الله في خلقه، وحكمه في تدبير خلقه، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين والموقنين بالتوحيد الخالص.
وهكذا أنار الله بصيرته، وأراه ملكوته، ولما جن عليه الليل، وستره بلباسه رأى كوكبا ممتازا عن الكواكب أنار الوجود وأفاض على العالم ضوءا خافتا، قال إبراهيم حينئذ في مقام المناظرة والمحاجة: هذا ربي تمهيدا لإقامة الحجة على قومه، فلما أفل وغاب وأسدل الليل عليه ستاره قال إبراهيم: ما هذا إله أبدا ... يظهر ثم يختفى؟ أنا لا أحب الآفلين، ولا أثق بهم فضلا عن كوني أعتقد فيهم الربوبية، وكيف يفيد ما يغيب ويستتر؟ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
وأراد إبراهيم أن يسلك طريقا آخر، فلما رأى القمر بازغا قد عم ضوؤه الكون، وهو أقوى من الكوكب، قال: هذا ربي، وهو أحق من الكوكب السابق، فلما أفل القمر وغاب كذلك، قال إبراهيم: ما هذا؟ تالله لئن لم يهدني ربي خالق الأكوان، والكواكب والأقمار لأكونن من القوم الضالين، وهذا تعريض بأن عبدة الكواكب والأصنام في ضلال مبين.
فلما رأى الشمس بازغة وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا، إذ هي مصدر الحياة والدفء ومبعث النور والحركة قال إبراهيم: نعم هذا ربي. هذا أكبر من القمر والكوكب نفعا وضوءا وجرما، وفي هذا مجاراة لقومه في أفكارهم واستدراج لهم حتى يسمعوا حجته.
فلما أفلت واحتجبت ولفها الليل بأستاره بعد ما أدركها الاصفرار والذبول، وملأت الأفق بدم الشفق، وجاء الليل بجحافله قال: ما هذا يا قوم؟ إنى برىء مما تشركون بالله، فهذا حال الشمس والقمر والكوكب، وفيهن شيء من النفع ظاهر