تقدم مثل هاتين الآيتين في البقرة آية ٥٨، ٥٩، فالموضوع واحد والصياغة مختلفة اختلافا يدل على كمال الإعجاز الذي حير الألباب وزلزل العقول، إذ البلاغة: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فهنا قال: اسكنوا بدل ادخلوا وكلوا بدل فكلوا، وحذف هنا رغدا، وعكس الترتيب قُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وهناك قال: خَطاياكُمْ بدل خَطِيئاتِكُمْ وهنا قال: سَنَزِيدُ وحذف الواو، كل هذا لنسق الكلام ولكمال التعبير، والله أعلم بأسرار كلامه.
فالسكنى أخص من الدخول ولا عكس، فمن يسكن يدخل قطعا وليس كل من يدخل يسكن، والدخول لأجل الأكل يعقبه الأكل فجاء هناك بالفاء، والأكل عقب الدخول مباشرة له لذة، ولذا أتى هناك بكلمة رغدا. أما من يسكن فقد تقل لذة أكله بل قد تنعدم لمرض أو ألم.
وفي الترتيب لا شيء إذ الواو لا تقتضي ترتيبا، والمهم أنهم أمروا بالدعاء مع الخضوع والانحناء فسواء تقدم هذا أو تأخر فلا ضرر.
وحذفت الواو هنا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ دليل على أن الموعود به شيئان: المغفرة وزيادة الحسنة، على معنى أنه قيل: ماذا حصل بعد المغفرة؟ قيل:
سنزيد المحسنين، والإرسال كما هنا كالإنزال في المعنى العام وإن أفاد الإرسال كثرة وزيادة، والظلم والفسق شيء واحد وإن أفاد الأول الاعتداء على الغير والثاني الخروج عن الدين، وتشير الآيتان إلى أنهما جمعا بين النقيصتين.
فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، والتبديل: التغيير في القول والفعل فهم لم يعملوا بظاهر القول ولا بحقيقته بل تركوه كله، هذا هو التبديل، وبعض العلماء يرى أنهم غيروا لفظا بدل لفظ فقالوا: حبة في شعرة، أى: حنطة في زكائب من شعر، بدل قوله تعالى لهم قولوا: حطة.
أيها المسلمون العبرة من هذا القصص أن يفهم جيدا أن الله مع خلقه سنة لا تتغير ولا تتبدل، فالأمة التي تفسق وتظلم نفسها وغيرها وتبتعد عن دستورها وكتابها مآلها أن ينزل الله عليها عذابا أليما يضطرب له كل قلب، وهذا الرجز من السماء قد يختلف ويأتى بأشكال متباينة على حسب الأزمنة والأمكنة.