درَّس وأفتى وأَشغَل، ثم نُقِل إلى خطابة القدس، ثم طلبه الوزير ابن السَّلْعوس فولَّاه قضاءَ مصر، وارتفع شأنُه، ثم بُعِثَ على قضاءِ الشام، ثم وليَ خطابةَ دمشق، وروى الكثير، ثم طُلِبَ لقضاءِ مصر بعد ابن دَقِيق العيد.
وامتدَّت أيامُه، وحُمِدَت أحكامه، وكَثُرَت أمواله، فتَرَك الأخذَ على القضاء عِفّةً، وكان يَخطُب من إنشائه، ولي مناصِبَ كِبارًا، وكان السلطان لما رجع من الكَرَك ومهَّد الأمور صَرَفَ من القضاء القاضي بدر الدين بالقاضي جمال الدين الزُّرَعي، فاستمرَّ الزُّرَعي نحوَ السنة، ثم رضِي السلطانُ وأعاد ابنَ جماعة إلى المنصب، وامتدَّت أيامُه وشاخ، وثَقُلَ سمعُه، ثم أَضَرَّ فَعَزَل نفسه وأقبل على شأنِه.
وعَلَا إسنادُه وتفرَّد، وصنَّف في علوم الحديث وفي الأحكام وغير ذلك، وكان روضةَ معارف، يَضرِبُ في كل فنٍّ بسَهْم، ويَنطَوي على دين وتألُّه وتصوُّن، وله وَقْعٌ في القلوب وجلالة في الصدور.
وكان والده من كبار الصالحين، تُوفِّي ببيت المَقدِس سنة خمس وسبعين وست مئة، وتوفِّي هو في العشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبع مئة، وله أربع وتسعون سنة وشهر، وكان مليحَ الهيئة، أبيض، مُسمتًا، مستدير اللحية كثَّها، نقيَّ الشَّيبة، دقيق الصوت، جميل البِزّة، يعلوه وَقارٌ وسَكِينة، ﵀، وعاش أبوه ثمانين سنة، ومات جدُّه في العام الذي وُلِدَ فيه أبوه سنة ست وتسعين وخمس مئة بحَمَاة، فتفقَّه والدُه بدمشق على الشيخ فخر الدين ابن عساكر، وحفظ نصف "المهذَّب" ثم أقبل على الحديث، وقرأ "الوسيط" دروسًا، ودرَّس بالبَشيرية