ومن الأدلة البينة أيضًا أنَّ قرني الكبش الذي ذبحه إبراهيم كانا في الكعبة، فقد قال النبي ﷺ لعثمان بن طلحة الحجبي بعد فتح مكة، فيما أخرجه أحمد ٢٧/ (١٦٦٣٧) وغيره: "إني كنتُ رأيتُ قرني الكبش حين دخلت البيت، فنسيتُ أن أمرك أن تُخمِّرهما، فخَمِّرهما، فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيءٌ يَشغَل المُصلي"، ومعلوم أنَّ إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه، قال الأصمعي فيما نقله عنه البغوي في "تفسيره" ٧/ ٤٧ وغيره: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذَّبيح: أكان إسحاق أم إسماعيل؟ فقال: أين ذهب عقلك؟! متى كان إسحاق بمكة؟! وإنما كان بها إسماعيل، وهو الذي بنى البيت مع أبيه، والنحر بمنى لا شك فيه. وقال أبو إسحاق الثعلبي في "تفسيره" ٨/ ١٥٣: هذا أدل دليل على أن الذبيح إسماعيل. ومما استدل به ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" ٤/ ٣٣٢ على ذلك: أنَّ الله تعالى لما ذكر قصة إبراهيم وابنه الذبيح في سورة الصافات، قال: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾. ثم قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾، بشره بالذبيح، وذكر قصته أولًا، فلما استوفى ذلك قال: ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ﴾ فبيّن أنهما بشارتان: بشارة بالذَّبيح، وبشارة ثانية بإسحاق، وهذا بين. وقد استدل به أيضًا تلميذه ابن القيم في "زاد المعاد" ٧٢/ ١، وابن كثير في "تفسيره" ٧/ ٢٣، وغيرهما. قال ابن القيم: فهذه بشارة من الله له، شكرًا له على صبره على ما أُمر به، وهذا ظاهر جدًّا في أنَّ المبشَّر به غير الأول، بل هو كالنص فيه. فإن قيل: فالبشارة الثانية وقعت على نبوته، أي: لما صبر الأب على ما أُمر به وأسلم الولد لأمر الله، جازاه على ذلك بأن أعطاه النبوة؟ قيل: البشارة وقعت على المجموع على ذاته ووجوده، وأنه يكون نبيًا، ولهذا نصب (نبيًا) على الحال المقدرة بعدها، أي: تقدير نبوته، فلا يمكن إخراج البشارة أن تقع على الأصل، ثم تخص بالحال التابعة الجارية مجرى الفضل، هذا مُحال من الكلام، بل إذا وقعت البشارة على نبوته فوقوعها على وجوده أولى وأحرى. وقد ذكر ابن تيمية وابن القيم وجوهًا عديدة من الاستدلالات على كون الذبيح إسماعيل لا إسحاق، لا يتسع المقام لذكرها اكتفينا بذكر أظهرها وأقواها.=