للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقابله طائفة أخرى فقالوا: العباد موجدون لأفعالهم، مخترعون لها بقدرتهم (١) وإرادتهم، والربّ تعالى لا يوصف بالقدرة على مقدور العبد، ولا تدخل أفعالهم تحت قدرته، كما لا يوصف العباد بمقدور الربّ، ولا تدخل أفعاله تحت قُدَرهم. وهذا قول جمهور القدرية، وكلهم متفقون على أن الله سبحانه غير فاعل لأفعال العباد.

واختلفوا: هل يوصف بأنه مخترعها ومحدثها، وأنه قادر عليها وخالق لها؟

فجمهورهم نفوا ذلك، ومن يقرب منهم إلى السنة أثبت كونها مقدورة لله، وأن الله سبحانه قادر على أعيانها، وأن العباد أحدثوها بإقدار الله لهم على إحداثها، وليس معنى قدرة الله عليها عندهم أنه قادر على فعلها، هذا عندهم عين المحال، بل قدرته عليها إقدارهم على إحداثها، فإنما أحدثوها بقدرته وإقداره وتمكينه، وهؤلاء أقرب القدرية إلى السنة.

وأرباب هذه المذاهب مع كل طائفة منهم خطأ وصواب، وبعضهم أقرب إلى الصواب، وبعضهم أقرب إلى الخطأ، وأدلة كل منهم وحججه إنما تنهض على بطلان خطأ الطائفة الأخرى، لا على إبطال ما أصابوا فيه.

فكل دليل صحيح للجبرية إنّما يدلّ على إثبات قدرة الرب تعالى ومشيئته، وأنه لا خالق غيره، وأنه على كل شيء قدير، لا يُستثنى من هذا العموم فرد واحد من أفراد الممكنات (٢)، وهذا حق، ولكن ليس معهم دليل


(١) "د": "بقدرهم".
(٢) "د" "م": "الكتاب" والمثبت من "ج".