للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

بها على ظهره من بلد إلى بلد، مادًّا عنقه مستسلمًا، صابرًا على الجوع والعطش والتعب، وغِلْظة الجمَّال وضربه، فالثقل والكَلّ على ظهره، ومرارة الجوع والعطش في كبده، وجهد التعب والمشقة ملء جوارحه، ولا مُعوَّل له غير الصبر.

وقيل لآخر: مَن علَّمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل؟

قال: مَن علَّم الديك يصادف الحبة في الأرض وهو محتاج إليها فلا يأكلها، بل يستدعي الدجاج، ويطلبهن طلبًا حثيثًا، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها، وهو مسرور بذلك طيب النفس به، وإذا وُضِع له الحبّ الكثير فرَّقه ههنا وههنا وإن لم يكن هناك دجاج؛ لأن طبعه قد ألف البذل والجود، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام.

وقيل لآخر: مَن علّمك هذا التحيّل في طلب الرزق، ووجوه تحصيله؟

قال: مَن علّم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها، وهي أكثر من أن تذكر؟

ومَن علّم الأسد إذا مشى وخاف أن يُقتص أثره ويُطلب، عفا (١) على أثر مشيته بذنبه، ومَن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه فينفخ في منخريه فيتحرك؛ لأن اللبوة تضعه خَوِرًا كالميت، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك، ومن ألهَم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع؟

ومَن علَّم الأسد أن يخضع للبَبْر، ويذلّ له إذا اجتمعا حتى ينجو منه،


(١) كذا في الأصول: "عفا"، والأقرب: "أن يعفو".