للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فوالله؛ لو أن أبُقْراط ودونه أوصوا بمثل هذا لخضع أتباعهم لهم فيه، وعظّموهم عليه غاية التعظيم، وأبدوا له من الحِكَم والفوائد ما قدروا عليه.

ثم لما كان العبد خارج الصلاة مهملَ جوارِحِه (١)، قد أسامها في مراتع الشهوات والحظوظ= أُمِر بعبوديةٍ تَجْمعُ جوارحه (٢) كلّها على ربه، وتأخذُ بحظّها من عبوديته، فيسلّم قلبه وبدنه وجوارحه وحواسّه وقواه لربّه عز وجلّ، واقفًا بين يديه، مُقبِلًا بكلّه عليه، معرضًا عمّا سواه، متنصِّلًا إليه من إعراضه عنه، وجنايته على حقّه.

ولما كان هذا طبعه ودأبه أُمِر أن يجدّد هذا الرجوع إليه والإقبال عليه وقتًا بعد وقت؛ لئلا يطول عليه الأمد فينسى ربَّه، وينقطع عنه بالكلية، فكانت الصلاة من أعظم نعم الله عليه، وأفضل هداياه التي ساقها إليه، فأبى نفاة الحكمة إلا جَعْلها كلفة وعناء وتعبًا، لا لحكمة ولا لمصلحة البتَّة إلا مجرد القهر والمشيئة!

وقد فُتِحَ لك البابُ فسُق الشريعة كلَّها من أولها إلى آخرها هذا المساق، واستدِلّ بما ظهر لك على ما خفي عنك، ولعل الحكمة فيما لم تعلمه أعظم منها فيما علمته؛ فإن الذي علمته على قدر عقلك وفهمك، وما خفي عنك فهو فوق عقلك وفهمك، ولو تتبعنا تفصيل ذلك لجاء عدّة أسفار، فيُكتَفى منه بأدنى تنبيه، والله المستعان.


(١) هكذا في الأصول على الإضافة.
(٢) قراءة محتملة من «د» أقرب للسياق، وفي «م»: «أمر بعبوديته بجميع جوارحه» دون إعجام.