وبعدُ؛ فاللذة والسرور والخير والنعيم والعافية والمصلحة والرحمة في هذه الدار المملوءة بالمحن والبلاء أكثر من أضدادها بأضعاف مضاعفة، فأين آلام الحيوان من لذته؟ وأين سقمه من صحته؟ وأين جوعه وعطشه من شبعه وريِّه، وتعبه من راحته؟
قال تعالى: {(٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ} [الشرح: ٥ - ٦]، ولن يغلب عسرٌ يُسْرَين، وهذا لأنّ الرحمةَ غلبت الغضب، والعفوَ سبق العقوبة، والنعمةَ تقدمت المحنة.
والخير في الصفات والأفعال، والشر في المفعولات لا في الأفعال، فأوصافه كلّها كمال، وأفعاله كلّها خيرات.
فإنْ ألِمَ الحيوانُ لم يعدم تألمه عافية من ألم هو أشد من ذلك الألم، أو تهيئة لقوة وصحة وكمال، أو عوضًا لا نسبة لذلك الألم إليه بوجه ما، فآلام الدنيا جميعها نسبتها إلى لذات الآخرة وخيراتها أقل من نسبة ذرة إلى جبال الدنيا بكثير، وكذلك لذات الدنيا جميعها بالنسبة إلى آلام الآخرة، والله سبحانه لم يخلق الآلام واللذات سُدى، ولم يقدرهما عبثًا، ومن كمال قدرته وحكمته أن جَعل كل واحدة منهما تُثمر الأخرى.
هذا ولوازم الخِلْقة يستحيل ارتفاعها، كما يستحيل ارتفاع الفقر والحاجة والنقص عن المخلوق، فلا يكون المخلوق إلا فقيرًا محتاجًا ناقص العلم والقدرة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوان لا يجوع ولا يعطش ولا يألم في عالم الكَوْن والفساد لم يكن حيوانًا، ولكانت هذه الدار دار بقاء ولذة مطلقة كاملة، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارًا ممتزجًا ألمُها بلذتها، وسرورُها بأحزانها، وغمومُها وصحتُها بسقمها؛ حكمةً منه بالغة.