الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا فِي مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَوَقَعَتِ الْفَيْئَةُ مَوْقِعَهَا، فَدَلَّ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْفَيْئَةِ فِيهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ لَهُمْ تَرَبُّصَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ - وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ} [البقرة: ٢٢٦ - ٢٢٧] وَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ هَذَا التَّقْسِيمَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي لَهُمْ فِيهَا تَرَبُّصٌ، كَمَا إِذَا قَالَ لِغَرِيمِهِ: أَصْبِرُ عَلَيْكَ بِدَيْنِي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ، فَإِنْ وَفَّيْتَنِي وَإِلَّا حَبَسْتُكَ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا إِلَّا إِنْ وَفَّيْتَنِي فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ، وَلَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِنْ وَفَّيْتَنِي بَعْدَهَا، وَإِلَّا كَانَتْ مُدَّةُ الصَّبْرِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَقِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ صَرِيحَةٌ فِي تَفْسِيرِ الْفَيْئَةِ بِأَنَّهَا فِي الْمُدَّةِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا أَنْ تَكُونَ تَفْسِيرًا.
قَالُوا: وَلِأَنَّهُ أَجَلٌ مَضْرُوبٌ لِلْفُرْقَةِ، فَتَعْقُبُهُ الْفُرْقَةُ، كَالْعِدَّةِ وَكَالْأَجَلِ الَّذِي ضُرِبَ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ، كَقَوْلِهِ: إِذَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَأَنْتِ طَالِقٌ.
قَالَ الْجُمْهُورُ: لَنَا مِنْ آيَةِ الْإِيلَاءِ عَشَرَةُ أَدِلَّةٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَضَافَ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ إِلَى الْأَزْوَاجِ، وَجَعَلَهَا لَهُمْ، وَلَمْ يَجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَلَّا يَسْتَحِقَّ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا، بَلْ بَعْدَهَا، كَأَجَلِ الدَّيْنِ، وَمَنْ أَوْجَبَ الْمُطَالَبَةَ فِيهَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ أَجَلًا لَهُمْ، وَلَا يُعْقَلُ كَوْنُهَا أَجَلًا لَهُمْ، وَيُسْتَحَقُّ عَلَيْهِمْ فِيهَا الْمُطَالَبَةُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: ٢٢٦] فَذَكَرَ الْفَيْئَةَ بَعْدَ الْمُدَّةِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: ٢٢٩] [الْبَقَرَةِ: ٢٢٩] . وَهَذَا بَعْدَ الطَّلَاقِ قَطْعًا. فَإِنْ قِيلَ: فَاءُ التَّعْقِيبِ تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْإِيلَاءِ لَا بَعْدَ الْمُدَّةِ؟ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ ذِكْرُ الْإِيلَاءِ، ثُمَّ تَلَاهُ ذِكْرُ الْمُدَّةِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِذِكْرِ الْفَيْئَةِ، فَإِذَا أَوْجَبَتِ الْفَاءُ التَّعْقِيبَ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعُودَ إِلَى أَبْعَدِ الْمَذْكُورِينَ، وَوَجَبَ عَوْدُهَا إِلَيْهِمَا، أَوْ إِلَى أَقْرَبِهِمَا.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute