الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خَالَفُوا هَذَا الْمَفْهُومَ لِمَنْطُوقِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: ٨] [النُّورِ: ٨] ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ سُقُوطِ الْحَدِّ بِقَوْلِهِمْ: إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، فَهُمْ تَرَكُوا مَفْهُومًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى، هَذَا لَوْ كَانُوا قَدْ خَالَفُوا الصَّحَابَةَ، فَكَيْفَ وَقَوْلُهُمْ مُوَافِقٌ لِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؟ فَإِنَّ اللِّعَانَ مَعَ نُكُولِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَمْ يَتَحَقَّقْ زِنَاهَا إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّحْقِيقِ الْيَقِينَ الْمَقْطُوعَ بِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، فَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، إِذْ شَهَادَتُهُمْ لَا تَجْعَلُ الزِّنَى مُحَقَّقًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِعَدَمِ التَّحَقُّقِ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ ثُبُوتُهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ الْمُدْرَأُ بِلِعَانِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّحَقُّقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ لِعَانِهِ الْمُؤَكَّدِ الْمُكَرَّرِ مَعَ إِعْرَاضِهَا عَنْ مُعَارَضَةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْهُ، أَقْوَى مِنَ التَّحَقُّقِ بِأَرْبَعِ شُهُودٍ، وَلَعَلَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي قَذْفِهَا وَهَتْكِهَا وَإِفْسَادِهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَالزَّوْجُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا.
وَقَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ أَوْ بِنُكُولِهَا أَوْ بِهِمَا، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْحَدِّ وَضَعْفِهِ عَنْهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِهِمَا مَعًا، إِذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْرَدٍ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَيَسْتَقِلُّ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ لِقُوَّتِهِ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: عَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ! كَيْفَ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ فِي دِرْهَمٍ وَيَقْضِي بِهِ فِي إِقَامَةِ حَدٍّ بَالَغَ الشَّارِعُ فِي سَتْرِهِ وَاعْتَبَرَ لَهُ أَكْمَلَ بَيِّنَةٍ، فَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُنْتَصَرُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ لِهَذَا وُضِعَ كِتَابُنَا هَذَا، وَلَا قَصَدْنَا بِهِ نُصْرَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بِهِ مُجَرَّدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سِيرَتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا تَضَمَّنَ سِوَى ذَلِكَ، فَتَبَعٌ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute