إِنَّ الْقُرْءَ الْحَيْضُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ، فَنُجِيبُ عَمَّا عَارَضَ بِهِ أَرْبَابُ الْقَوْلِ الْآخَرِ، لِيَتَبَيَّنَ مَا رَجَّحْنَاهُ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَنَقُولُ: أَمَّا اسْتِدْلَالُكُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] [الطَّلَاقِ: ١] ، فَهُوَ إِلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْكُمْ أَقْرَبُ مِنْهُ إِلَى أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لَكُمْ، فَإِنَّ الْمُرَادَ طَلَاقُهَا قَبْلَ الْعِدَّةِ ضَرُورَةً، إِذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّ هَذَا - مَعَ تَضَمُّنِهِ لِكَوْنِ اللَّامِ لِلظَّرْفِيَّةِ بِمَعْنَى - فِي - فَاسِدٌ مَعْنًى، إِذْ لَا يُمْكِنُ إِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي الْعِدَّةِ، فَإِنَّهُ سَبَبُهَا، وَالسَّبَبُ يَتَقَدَّمُ الْحُكْمَ، وَإِذَا تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَمَنْ قَالَ: الْأَقْرَاءُ الْحِيَضُ، فَقَدْ عَمِلَ بِالْآيَةِ، وَطَلَّقَ قَبْلَ الْعِدَّةِ.
فَإِنْ قُلْتُمْ: وَمَنْ قَالَ إِنَّهَا الْأَطْهَارُ فَالْعِدَّةُ تَتَعَقَّبُ الطَّلَاقَ، فَقَدْ طَلَّقَ قَبْلَ الْعِدَّةِ، قُلْنَا: فَبَطَلَ احْتِجَاجُكُمْ حِينَئِذٍ، وَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الْعِدَّةِ لَا فِيهَا، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِالْآيَةِ، لَكِنَّ إِرَادَةَ الْحَيْضِ أَرْجَحُ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ فِعْلَةٌ مِمَّا تَعُدُّ يَعْنِي مَعْدُودَةً؛ لِأَنَّهَا تُعَدُّ وَتُحْصَى، كَقَوْلِهِ: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: ١] [الطَّلَاقِ: ١] ، وَالطُّهْرُ الَّذِي قَبْلَ الْحَيْضَةِ مِمَّا يُعَدُّ وَيُحْصَى، فَهُوَ مِنَ الْعِدَّةِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ دُخُولُهُ فِي مُسَمَّى الْقُرُوءِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ أَمْ لَا؟ فَلَوْ كَانَ النَّصُّ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِقُرُوئِهِنَّ، لَكَانَ فِيهِ تَعَلُّقٌ، فَهُنَا أَمْرَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: ٢٢٨] [الْبَقَرَةِ: ٢٢٨] ، وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: ١] [الطَّلَاقِ: ١] ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَائِلَ: افْعَلْ كَذَا لِثَلَاثٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، إِنَّمَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ مُمْتَثِلًا إِذَا فَعَلَهُ قَبْلَ مَجِيءِ الثَّلَاثِ، وَكَذَلِكَ إِذَا قَالَ: فَعَلْتُهُ لِثَلَاثٍ مَضَيْنَ مِنَ الشَّهْرِ، إِنَّمَا يَصْدُقُ إِذَا فَعَلَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الثَّلَاثِ، وَهُوَ بِخِلَافِ حَرْفِ الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ " فِي " فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: فَعَلْتُهُ فِي ثَلَاثٍ بَقِينَ، كَانَ الْفِعْلُ وَاقِعًا فِي نَفْسِ الثَّلَاثِ، وَهَاهُنَا نُكْتَةٌ حَسَنَةٌ، وَهِيَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: فَعَلْتُهُ لِثَلَاثِ لَيَالٍ خَلَوْنَ أَوْ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَفَعَلْتُهُ فِي الثَّانِي أَوِ الثَّالِثِ مِنَ الشَّهْرِ، أَوْ فِي ثَانِيهِ أَوْ ثَالِثِهِ، فَمَتَى أَرَادُوا مُضِيَّ الزَّمَانِ أَوِ اسْتِقْبَالَهُ، أَتَوْا بِاللَّامِ، وَمَتَى أَرَادُوا وُقُوعَ الْفِعْلِ فِيهِ، أَتَوْا بِفِي، وَسِرُّ ذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أَرَادُوا مُضِيَّ زَمَنِ الْفِعْلِ أَوِ اسْتِقْبَالَهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute