أَنْ يَنْزِلَ فَرْضُ رَمَضَانَ، فَلَمَّا نَزَلَ فَرْضُ رَمَضَانَ تَرَكَهُ، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ التَّخَلُّصُ مِنْهُ إِلَّا بِأَنَّ صِيَامَهُ كَانَ فَرْضًا قَبْلَ رَمَضَانَ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ الْمَتْرُوكُ وُجُوبَ صَوْمِهِ لَا اسْتِحْبَابَهُ، وَيَتَعَيَّنُ هَذَا وَلَا بُدَّ، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِعَامٍ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْيَهُودَ يَصُومُونَهُ: ( «لَئِنْ عِشْتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» ) أَيْ مَعَهُ، وَقَالَ: ( «خَالِفُوا الْيَهُودَ وَصُومُوا يَوْمًا قَبْلَهُ أَوْ يَوْمًا بَعْدَهُ» ) ، أَيْ: مَعَهُ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا كَانَ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، وَأَمَّا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَكَانَ يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرْ فِيهِ بِشَيْءٍ، فَعُلِمَ أَنَّ اسْتِحْبَابَهُ لَمْ يُتْرَكْ.
وَيَلْزَمُ مَنْ قَالَ: إِنَّ صَوْمَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا، أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقُولَ بِتَرْكِ اسْتِحْبَابِهِ، فَلَمْ يَبْقَ مُسْتَحَبًّا، أَوْ يَقُولَ: هَذَا قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَأْيِهِ وَخَفِيَ عَلَيْهِ اسْتِحْبَابُ صَوْمِهِ، وَهَذَا بَعِيدٌ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَثَّهُمْ عَلَى صِيَامِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَوْمَهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ، وَاسْتَمَرَّ الصَّحَابَةُ عَلَى صِيَامِهِ إِلَى حِينِ وَفَاتِهِ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَكَرَاهَةِ صَوْمِهِ، فَعُلِمَ أَنَّ الَّذِي تُرِكَ وُجُوبُهُ لَا اسْتِحْبَابُهُ.
فَإِنْ قِيلَ: حَدِيثُ معاوية الْمُتَّفَقُ عَلَى صِحَّتِهِ صَرِيحٌ فِي عَدَمِ فَرْضِيَّتِهِ وَإِنَّهُ لَمْ يُفْرَضْ قَطُّ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ حَدِيثَ معاوية صَرِيحٌ فِي نَفْيِ اسْتِمْرَارِ وُجُوبِهِ، وَأَنَّهُ الْآنَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَلَا يَنْفِي وُجُوبًا مُتَقَدِّمًا مَنْسُوخًا، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ وَاجِبًا وَنُسِخَ وُجُوبُهُ: إِنّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهُ عَلَيْنَا.
وَجَوَابٌ ثَانٍ: أَنَّ غَايَتَهُ أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ عَامًّا فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَالْحَاضِرِ، فَيُخَصُّ بِأَدِلَّةِ الْوُجُوبِ فِي الْمَاضِي وَتَرْكِ النَّفْيِ فِي اسْتِمْرَارِ الْوُجُوبِ.
وَجَوَابٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا نَفَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ وَوُجُوبُهُ مُسْتَفَادًا مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute