هؤلاء مردوا على النفاق ومرنوا عليه مرونا جعلهم متأصلين فيه، قد بلغوا غاية إتقانه، بحيث لا يعرفهم أحد، فهم حريصون جدا لا يصدر منهم ما يتنافى مع ظاهر إيمانهم، ولذلك لا تعرفهم أنت مع بعد نظرك، ودقة فراستك، التي تنظر فيها بنور الله وذلك لأنهم أجادوا النفاق، وتجنبوا الشبهات، وانظر إلى نفى العلم عن ذواتهم لا عن نفاقهم، والله يعلمهم لأنه يعلم السر وأخفى، ولو شاء لاطلعك عليهم كما أطلعك على غيرهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [سورة محمد الآيتان ٢٩ و ٣٠] .
هؤلاء سنعذبهم مرتين: مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة، والحال أن أعمالهم كسراب بقيعة لا تنفعهم بشيء.. ومرة في الآخرة بالعذاب الشديد والجزاء المناسب لجرم عملهم وسوء صنيعهم ثم يردون إلى عذاب عظيم.
نعود إلى القول المختار من هذه الآيات نزلت في بيان حال الناس أيام النبي صلّى الله عليه وسلم فمنهم السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم من المهاجرين والأنصار، ومنهم التابعون لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم وهاجروا وجاهدوا معهم فأولئك منهم. لهم جميعا الرضوان وذلك هو الفوز العظيم.
ومن الناس المنافقون من سكان البدو والحضر خصوصا المدينة وهؤلاء تأصل فيهم النفاق، عليهم غضب الله وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا.
ومن الناس قوم تخلفوا ولم ينافقوا فليسوا من السابقين ولا من التابعين ولا من المنافقين هؤلاء نزل فيهم قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية.. والمعنى: وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة أناس آخرون اعترفوا بذنوبهم ولم ينكروها قد خلطوا عملا صالحا وهو الاعتراف بالذنب والتوبة والرجوع إلى الله، والجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، وآخر سيئا وهو التخلف بغير عذر، فلم يكونوا من المؤمنين الخلص، ولا من المنافقين الفاسقين،
روى أنهم ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد وأقسموا لا يحلنهم إلا رسول الله. فلما قدم رسول الله وعلم بخبرهم أقسم لا يحلنهم حتى ينزل