للتراجم، وأعلمهم بالرُّواة من أعارب وأعاجم، لا يخصُّ بمعرفته مصرًا دون مصر، ولا ينفردُ علمُه بأهل عصرٍ دون عصر، معتمِدًا آثارَ السلف الصالح، مجتهدًا فيما نِيطَ به في حفظ السُّنة من النصائح، مُعرِضًا عن الدنيا وأسبابها، مُقبلًا على طريقه التي أرْبَى بها على أربابها، لا يبالي بما ناله من الأَزْل، ولا يخلط جِدَّه بشيء من الهَزْل، وكان بما يَضَعه بصيرا، وبتحقيق ما يأتيه جَديرا، وهو في اللغة إمام، وله بالقَرِيض إلمام، فكنت أحرص على فوائده لأُحرِزَ منها ما أُحرزه، وأستفيد من حديثه الذي إن طال لم يُمَلّ، وإن أَوجَز وَدِدتُ أنه لم يوجز، وهو الذي حَدَاني على رؤية الإمام شيخ الإسلام تقي الدين بن تيميَّة؛ وسَرَدَ أبو الفتح فصلًا في تقريظ ابن تيميّة.
ولقد كان بين المِزِّي وابن تيميّة صحبة أَكيدة، ومرافقة في السَّماع، ومباحثة واجتماع، ووُدٌّ وصفاء، والشيخ هو الذي سَعَى للمزِّي في تولية دار الحديث، وفي تولية التُّربة الصالحية، وجَرَت في ذلك أمور ونَكَدٌ من أضداد الشيخ، وسُئِلْنا عن العقيدة، فكتب لهم المزيُّ بجُمَلٍ وأُعفِيت أنا من الكتابة، ومَردُّنا الكلّ إلى الله تعالى، ولا قوة إلا بالله.
وكان شيخنا أبو الحجَّاج يترخَّص في الأداء من غير أصول، ويُصلِح كثيرًا من حفظه، ويتسامح في دَمْج القارئ ولَغَط السامعين ويتوسَّع، فكأنه يرى أن العُمْدة على إجازة المُسمِع للجماعة، وله في ذلك مذاهب عجيبة، والله تعالى يَسمَح لنا وله بكرمه، فكان يَتمثَّل بقول ابن مَندَهْ: يكفيك من الحديث شَمُّه.
تُوفِّي في ثاني عشر صفر سنة اثنتين وأربعين وسبع مئة، ودُفن بمقابر