فتأمل هذا الترتيب العجيب، وهذا التنقّل في مراتب العبودية، كيف ينتقل من مقام الثناء على الربّ بأحسن أوصافه وأسمائه وأكمل محامده إلى منزلة خضوعه وتذلّله لمن له هذا الثناء، ويستصحب في مقام خضوعه ثناءً يناسب ذلك المقام، ويليق به، فيذكر عظمة الرب في حال خضوعه، وعلوّه في حال سفوله.
ولما كان أشرف أذكار الصلاة القرآن شُرِع في أشرف أحوال الإنسان، وهي هيئة القيام التي قد انتصب فيها قائمًا على أحسن هيئة، ولما كان أفضل أركانها الفعلية السجود شُرِع فيها بوصف التكرار، وجُعِل خاتمة الركعة وغايتها التي انتهت إليها، فطابق (١) افتتاحُ الركعة بالقرآن واختتامُها بالسجود أولَ سورةٍ افْتُتِح بها الوحي، فإنها بُدِئت بالقراءة، وخُتِمت بالسجود.
وشُرِع له بين هذين الخضوعين أن يجلس جلسة العبيد، ويسأل ربّه أن يغفر له ويرحمه ويرزقه ويهديه ويعافيه، وهذه الدعوات تجمع له خير دنياه وآخرته.
ثم شُرِع له تكرارُ هذه الركعة مرة بعد مرة، كما شُرِع تكرارُ الأذكار والدعوات مرة بعد مرة؛ ليستعد بالأول لتكميل ما بعده، ويجبر بما بعده ما قبله، وليشبع القلب من هذا الغذاء، وليأخذ داؤُهُ نصيبَهُ وافرًا من الدواء ليقاومه؛ فإن منزلة الصلاة من القلب منزلة الغذاء والدواء، فإذا تناول الجائع الشديد الجوع من الغذاء لقمة أو لقمتين كان غناؤها عنه وسدها من جوعه يسيرًا جدًّا، وكذلك المرض الذي يحتاج إلى قدر معين من الدواء، إذا أخذ منه المريض قيراطًا من ذلك لم يزل مرضه بالكلية، وأزال بحسبه، فما حصل