للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا عند التأمل قطعي ضروري.

الوجه الثامن عشر: أن النفوس ليست إلى شيء أحوج منها إلى ذلك، وحاجتها إليه واقعة في مرتبة الضرورة التي هي فوق الحاجة، فإذا كانت قد فُطِرت على محبة ما حاجتها إليه دون ذلك بكثير، وعلى معرفته وإيثاره؛ فكيف لا تكون مفطورة على ما هي إليه في غاية الاضطرار؟!

يوضحه الوجه التاسع عشر: أنها إنما خُلِقت لذلك، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: ٥٦]، ومعلوم أن ما خُلِق لشيء من الأشياء أن الغاية والحكمة تقتضي أن يُهَيَّأ له، ويُجْعل فيه استعداد وقبول لما خُلِق، وهذا حال جميع المخلوقات حيوانها ونباتها ومعادنها وأركانها (١)، كما جعل في الماء قوة أُعين بها لما خُلِق له، وكذلك في النار والهواء والتراب وسائر المخلوقات، فكيف بمن خلقه لمعرفته ومحبته وعبادته؟!

قد هيَّؤوك لأمر لو فطنتَ له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهَمَلِ (٢)

الوجه العشرون: أن بني آدم في معرفة الحق وقصده ومحبته على مراتب: فمنهم من عنده نوع من معرفة بالحق لكن بلا عمل به، بل مع بُغض له، رغبة عنه، واستكبارًا على أهله، وهذا يغلب على الأمة الغضبية. ومنهم من معه نوع من التألّه والمحبة والطلب والإرادة والأخلاق الجميلة، لكن مع


(١) كذا في «د»، ولعل الصواب: «وأكوانها».
(٢) البيت لمؤيد الدين الحسين بن علي الطغرائي من قصيدته المشهورة بـ «لامية العجم»، في ديوانه (٣٠٩) وفيه: «قد رشحوك»، انظر: «معجم الأدباء» (٣/ ١١١٣).