. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الْحَرَمَ لَا يَعْصِمُ مِنْ إقَامَةِ وَاجِبٍ وَلَا يُؤَخِّرُهُ عَنْ وَقْتِهِ انْتَهَى. وَقَدْ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا فَذَهَبَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّهُ يُسْتَوْفَى الْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ بِكُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ وَلِهَذِهِ الْقِصَّةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ وَهُوَ قَوْلُ الْهَادَوِيَّةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى فِيهَا حَدٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا يُسْفَكُ بِهَا دَمٌ " وَأَجَابُوا عَمَّا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ لَا عُمُومَ لِلْأَدِلَّةِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بَلْ هِيَ مُطْلَقَاتٌ مُقَيَّدَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ فَإِنَّهُ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ بَعْدَ شَرْعِيَّةِ الْحُدُودِ، وَأَمَّا قَتْلُ ابْنِ خَطَلٍ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ فَإِنَّهُ كَانَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي أُحِلَّتْ فِيهَا مَكَّةُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَمَرَّتْ مِنْ صَبِيحَةِ يَوْمِ الْفَتْحِ إلَى الْعَصْرِ وَقَدْ قُتِلَ ابْنِ خَطَلٍ وَقْتَ الضُّحَى بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ: وَهَذَا الْكَلَامُ فِيمَنْ ارْتَكَبَ حَدًّا فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْتَجَأَ إلَيْهِ وَأَمَّا إذَا ارْتَكَبَ إنْسَانٌ فِي الْحَرَمِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ فَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يُقَامُ فِيهِ حَدٌّ، فَذَهَبَ بَعْضُ الْهَادَوِيَّةِ أَنَّهُ يُخْرَجُ مِنْ الْحَرَمِ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ فِيهِ، وَخَالَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: مَنْ سَرَقَ أَوْ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ فِي الْحَرَمِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَ الْأَثْرَمُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا " مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فِي الْحَرَمِ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ مَا أَحْدَثَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ " وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} وَدَلَّ كَلَامُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ يُقَامُ. وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُلْتَجِئِ إلَيْهِ بِأَنَّ الْجَانِيَ فِيهِ هَاتِكٌ لِحُرْمَتِهِ وَالْمُلْتَجِئُ مُعَظِّمٌ لَهَا وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى مَنْ جَنَى فِيهِ مِنْ أَهْلِهِ لَعَظُمَ الْفَسَادُ فِي الْحَرَمِ وَأَدَّى إلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ الْفَسَادَ قَصَدَ إلَى الْحَرَمِ لِيَسْكُنَهُ وَفَعَلَ فِيهِ مَا تَتَقَاضَاهُ شَهْوَتُهُ وَأَمَّا الْحَدُّ بِغَيْرِ الْقَتْلِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْقِصَاصِ فَفِيهِ خِلَافٌ أَيْضًا.
فَذَهَبَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى لِأَنَّ الْأَدِلَّةَ إنَّمَا وَرَدَتْ فِيمَنْ سَفَكَ الدَّمَ وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْقَتْلِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَحْرِيمِهِ فِي الْحَرَمِ تَحْرِيمُ مَا دُونَهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ أَعْظَمُ وَالِانْتِهَاكُ بِالْقَتْلِ أَشَدُّ وَلِأَنَّ الْحَدَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ جَارٍ مَجْرَى تَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ: وَعَنْهُ رِوَايَةٌ بِعَدَمِ الِاسْتِيفَاءِ لِشَيْءٍ عَمَلًا بِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ.
وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَخَصِّ حَيْثُ صَحَّ أَنَّ سَفْكَ الدَّمِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْقَتْلِ (قُلْت) وَلَا يَخْفَى أَنَّ الدَّلِيلَ خَاصٌّ بِالْقَتْلِ وَالْكَلَامُ مِنْ أَوَّلِهِ فِي الْحُدُودِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْقَتْلِ إذْ حَدُّ الزِّنَى غَيْرُ الرَّجْمِ وَحَدُّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ يُقَامُ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute