للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

الْجَاهِلِيَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ الْحَلَالَ الْكَسْبُ الطَّيِّبُ وَهُوَ الْحَلَالُ الْمَحْضُ وَإِنَّ الْمُتَشَابِهَ عِنْدَنَا فِي حَيِّزِ الْحَلَالِ بِدَلَائِلَ ذَكَرْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ذَكَرَهُ صَاحِبُ تَنْضِيدِ التَّمْهِيدِ فِي التَّرْغِيبِ فِي الصَّدَقَةِ نَقَلَهُ عَنْهُ السَّيِّدُ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ.

وَقَدْ حَقَّقْنَا أَنَّهُ مِنْ قِسْمِ الْحَلَالِ الْبَيِّنِ فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ: الْقَوْلُ الْمُبِينُ وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ مَا شَكَكْت فِيهِ فَالْأَوْلَى اجْتِنَابُهُ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ وَاجِبٍ وَمُسْتَحَبٍّ وَمَكْرُوهٍ، فَالْوَاجِبُ اجْتِنَابُ مَا يَسْتَلْزِمُ الْمُحَرَّمَ، وَالْمَنْدُوبُ اجْتِنَابُ مُعَامَلَةِ مَنْ غَلَبَ عَلَى مَالِهِ الْحَرَامُ وَالْمَكْرُوهُ اجْتِنَابُ الرُّخْصَةِ الْمَشْرُوعَةِ ا. هـ.

قَالَ فِي الشَّرْحِ: وَقَدْ يُنَازَعُ فِي الْمَنْدُوبِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْأَغْلَبُ الْحَرَامَ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبَ الِاجْتِنَابِ وَهُوَ الَّذِي بَنَى عَلَيْهِ الْهَادَوِيَّةُ فِي مُعَامَلَةِ الظُّلْمِ فِيمَا لَمْ يُظَنَّ تَحْرِيمُهُ؛ لِأَنَّ الَّذِي غَلَبَ عَلَيْهِ الْحَرَامُ يُظَنُّ فِيهِ التَّحْرِيمُ ا. هـ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذَا فِي حَوَاشِي ضَوْءِ النَّهَارِ.

وَقَسَّمَ الْغَزَالِيُّ الْوَرَعَ أَقْسَامًا وَرَعُ الصِّدِّيقِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا لَمْ تَكُنْ فِيهِ بَيِّنَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى حِلِّهِ، وَوَرَعُ الْمُتَّقِينَ وَهُوَ مَا لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَلَكِنْ يَخَافُ أَنْ يَجُرَّ إلَى الْحَرَامِ، وَوَرَعُ الصَّالِحِينَ وَهُوَ تَرْكُ مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ احْتِمَالٌ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ مَوْقِعٌ وَإِلَّا فَهُوَ وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ.

قُلْت: وَرَعُ الْمُوَسْوَسِينَ قَدْ بَوَّبَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فَقَالَ: (بَابُ مَنْ لَمْ يَرَ الْوَسْوَاسَ فِي الشُّبُهَاتِ) كَمَنْ يَمْتَنِعُ مِنْ أَكْلِ الصَّيْدِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ انْفَلَتَ مِنْ إنْسَانٍ وَكَمَنْ تَرَكَ شِرَاءَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَجْهُولٍ لَا يَدْرِي أَمَالُهُ حَرَامٌ أَمْ حَلَالٌ وَلَا عَلَامَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ التَّحْرِيمِ وَكَمَنْ تَرَكَ تَنَاوُلَ شَيْءٍ لِخَبَرٍ وَرَدَ فِيهِ مُتَّفَقٌ عَلَى ضَعْفِهِ وَيَكُونُ دَلِيلُ إبَاحَتِهِ قَوِيًّا وَتَأْوِيلُهُ مُمْتَنِعٌ أَوْ مُسْتَبْعَدٌ وَالْكَلَامُ فِي الْحَدِيثِ مُتَّسِعٌ وَفِي هَذَا كِفَايَةٌ وَقَوْلُهُ «إنَّ لِكُلِّ مَلْكٍ حِمًى» إخْبَارٌ عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ مُلُوكُ الْعَرَبِ وَغَيْرُهُمْ فَإِنَّهُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ حِمًى يَحْمِيهِ مِنْ النَّاسِ وَيَمْنَعُهُمْ عَنْ دُخُولِهِ فَمَنْ دَخَلَهُ أَوْقَعَ بِهِ الْعُقُوبَةَ وَمَنْ أَرَادَ نَجَاةَ نَفْسِهِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَمْ يَقْرَبْهُ خَوْفًا مِنْ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَذَكَرَ هَذَا كَضَرْبِ الْمَثَلِ لِلْمُخَاطَبِينَ ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ حِمَاهُ تَعَالَى: الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَى الْعِبَادِ. وَقَوْلُهُ " وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ إلَخْ " أَيْ مَنْ وَقَعَ فِيهَا فَقَدْ حَامَ حَوْلَ حِمَى الْحَرَامِ فَيَقْرُبُ وَيَسْرُعُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ.

وَفِيهِ إرْشَادٌ إلَى الْبُعْدِ عَنْ ذَرَائِعِ الْحَرَامِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُحَرَّمَةٍ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْ الْوُقُوعِ فِيهَا الْوُقُوعُ فِيهِ فَمَنْ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ لَا يَقْرَبُ الشُّبُهَاتِ لِئَلَّا يَدْخُلَ فِي الْمَعَاصِي. ثُمَّ أَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَبِّهًا مُؤَكَّدًا بِأَنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ اللَّحْمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُمْضَغُ فِي الْفَمِ لِصِغَرِهَا وَأَنَّهَا مَعَ صِغَرِهَا عَلَيْهَا مَدَارُ صَلَاحِ الْجَسَدِ وَفَسَادِهِ فَإِنْ صَلُحَتْ صَلُحَ وَإِنْ فَسَدَتْ فَسَدَ وَفِي كَلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْقَلْبِ الْمُضْغَةُ إذْ هِيَ مَوْجُودَةٌ لِلْبَهَائِمِ مُدْرَكَةٌ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ بَلْ الْمُرَادُ بِالْقَلْبِ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ رُوحَانِيَّةٌ لَهَا بِهَذَا الْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ تَعَلُّقٌ وَتِلْكَ اللَّطِيفَةُ هِيَ حَقِيقَةُ الْإِنْسَانِ وَهِيَ الْمُدْرِكَةُ

<<  <  ج: ص:  >  >>