. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
السَّيِّدَ عَقَدَ عَلَيْهَا بِحُكْمِ الْمِلْكِ حَيْثُ كَانَ مَالِكًا لِرَقَبَتِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَالْعِتْقُ يَقْتَضِي تَمْلِيكَ الرَّقَبَةِ وَالْمَنَافِعِ لِلْمُعْتَقِ، وَهَذَا مَقْصُودُ الْعِتْقِ وَحِكْمَتُهُ فَإِذَا مَلَكَتْ رَقَبَتَهَا مَلَكَتْ بَعْضَهَا وَمَنَافِعَهَا، وَمِنْ جُمْلَتِهَا مَنَافِعُ الْبُضْعِ فَلَا يُمْلَكُ عَلَيْهَا إلَّا بِاخْتِيَارِهَا فَخَيَّرَهَا الشَّارِعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ الْبَقَاءِ تَحْتَ الزَّوْجِ أَوْ الْفَسْخِ مِنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ طُرُقِ حَدِيثِ بَرِيرَةَ «مَلَكْتُ نَفْسَكَ فَاخْتَارِي» قُلْتُ، وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ عَلَى مِلْكِهَا لِنَفْسِهَا فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى عِلَّةِ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْخِيَارِ، وَإِنْ كَانَتْ تَحْتَ حُرٍّ، وَهَلْ يَقَعُ الْفَسْخُ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ؟ قِيلَ نَعَمْ كَمَا يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ (خُيِّرَتْ)، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْفَسْخِ ثُمَّ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ الرَّجْعَةُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُرَاجِعُهَا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ إنْ رَضِيَتْ بِهِ، وَلَا يَزَالُ لَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ عِلْمِهَا مَا لَمْ يَطَأْهَا لِمَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ فَهِيَ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَطَأْهَا إنْ تَشَأْ فَارَقَتْهُ، وَإِنْ وَطِئَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا»، وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظِ «إنْ وَطِئَكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ»، وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِ «إنْ قَارَبَك فَلَا خِيَارَ لَك» فَدَلَّ أَنَّ الْوَطْءَ مَانِعٌ مِنْ الْخِيَارِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْحَنَابِلَةُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ جَلِيلٌ قَدْ ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كُتُبِهِمْ فِي الزَّكَاةِ، وَفِي الْعِتْقِ، وَفِي الْبَيْعِ، وَفِي النِّكَاحِ، وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْبَيْعِ، وَأَطَالَ الْمُصَنِّفُ فِي عِدَّةِ مَا اسْتَخْرَجَ مِنْهُ مِنْ الْفَوَائِدِ حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةً وَاثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ فَائِدَةً فَنَذْكُرُ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْبَابِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ: (مِنْهَا) جَوَازُ بَيْعِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الرَّقِيقِينَ دُونَ الْآخَرِ، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ الْمُزَوَّجَةِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَأَنَّ عِتْقَهَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا، وَلَا فَسْخًا، وَأَنَّ لِلرَّقِيقِ أَنْ يَسْعَى فِي فِكَاكَ رَقَبَتَهُ مِنْ الرِّقَّ، وَأَنَّ الْكَفَاءَةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْحُرِّيَّةِ (قُلْت) قَدْ أَشَارَ الْحَدِيثُ إلَى سَبَبِ تَخْيِيرِهَا، وَهُوَ مِلْكُهَا نَفْسَهَا كَمَا عَرَفْت فَلَا يَتِمُّ هَذَا، وَأَنَّ اعْتِبَارهَا يَسْقُطُ بِرِضَا الْمَرْأَةِ الَّتِي لَا وَلِيَّ لَهَا، وَمِمَّا ذُكِرَ فِي قِصَّةِ بَرِيرَةَ أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ يَتْبَعُهَا فِي سِكَكِ الْمَدِينَةِ يَتَحَدَّرُ دَمْعُهُ لِفَرْطِ مَحَبَّتِهِ لَهَا. قَالُوا: فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحُبَّ يُذْهِبُ الْحَيَاءَ، وَأَنَّهُ يُعْذَرُ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فَيُعْذَرُ أَهْلُ الْمَحَبَّةِ فِي اللَّهِ إذَا حَصَلَ لَهُمْ الْوَجْدُ عِنْدَ سَمَاعِ مَا يَفْهَمُونَ مِنْهُ الْإِشَارَةَ إلَى أَحْوَالِهِمْ حَيْثُ يُغْتَفَرُ مِنْهُمْ مَا لَا يَحْصُلُ عَنْ اخْتِيَارٍ كَالرَّقْصِ، وَنَحْوِهِ (قُلْت) لَا يَخْفَى أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ بَكَى مِنْ فِرَاقِ مُحِبِّهِ فَمُحِبُّ اللَّهِ يَبْكِي شَوْقًا إلَى لِقَائِهِ، وَخَوْفًا مِنْ سَخَطِهِ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ.
وَأَمَّا الرَّقْصُ وَالتَّصْفِيقُ فَشَأْنُ أَهْلِ الْفِسْقِ، وَالْخَلَاعَةِ لَا شَأْنُ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ، وَيَخْشَاهُ فَأَعْجَبُ لِهَذَا الْمَأْخَذِ الَّذِي أَخَذُوهُ مِنْ الْحَدِيثِ، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَتْحِ ثُمَّ سَرَدَ فِيهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَبْلَغَ فَوَائِدَهُ إلَى الْعَدَدِ الَّذِي وَصَفْنَاهُ، وَفِي بَعْضِهَا خَفَاءٌ، وَتَكَلُّفٌ لَا يَلِيقُ بِمِثْلِ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute