. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لِلْبُخَارِيِّ).
فِيهِ مَسَائِلُ:
(الْأُولَى) فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَاصِ فِي السِّنِّ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَمَالِهَا، فَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}، وَقَدْ ثَبَتَ الْإِجْمَاعُ عَلَى قَلْعِ السِّنِّ بِالسِّنِّ فِي الْعَمْدِ. وَأَمَّا كَسْرُ السِّنِّ، فَقَدْ دَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى الْقِصَاصِ فِيهِ أَيْضًا قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَذَلِكَ إذَا عُرِفَتْ الْمُمَاثَلَةُ وَأَمْكَنَ ذَلِكَ مِنْ دُونِ سِرَايَةٍ إلَى غَيْرِ الْوَاجِبِ قَالَ أَبُو دَاوُد: قُلْت لِأَحْمَدَ - يُرِيدُ ابْنَ حَنْبَلٍ - كَيْفَ فِي السِّنِّ؟ قَالَ تُبْرَدُ أَيْ يُبْرَدُ مِنْ سِنِّ الْجَانِي بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْ سِنِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْقَلْعِ، وَأَنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ كَسَرَتْ قَلَعَتْ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وَأَمَّا الْعَظْمُ غَيْرُ السِّنِّ، فَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ ذَهَابُ النَّفْسِ إذَا لَمْ تَتَأَتَّ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِأَنْ لَا يُوقَفَ عَلَى قَدْرِ الذَّاهِبِ، وَقَالَ اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَالْحَنَفِيَّةُ لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ غَيْرِ السِّنِّ؛ لِأَنَّ دُونَ الْعَظْمِ حَائِلًا مِنْ جِلْدٍ وَلَحْمٍ وَعَصَبٍ فَيَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْمُمَاثَلَةُ فَلَوْ أَمْكَنَتْ لَحَكَمْنَا بِالْقِصَاصِ وَلَكِنْ لَا نَصِلُ إلَى الْعَظْمِ حَتَّى نَنَالَ مَا دُونَهُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ.
(الثَّانِيَةُ) قَوْلُهُ (أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ) ظَاهِرُ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارُ، وَقَدْ تُؤُوِّلَ بِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْحُكْمَ وَالْمُعَارَضَةَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ يُؤَكِّدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - طَلَبَ الشَّفَاعَةِ مِنْهُمْ وَأَكَّدَ طَلَبَهُ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْقَسَمِ وَقِيلَ: بَلْ قَالَهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَتْمٌ وَظَنَّ أَنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدِّيَةِ، أَوْ الْعَفْوِ وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَوْلُهُ فِي جَوَابِهِ (يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ) وَقِيلَ: إنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْإِنْكَارَ بَلْ قَالَهُ تَوَقُّعًا وَرَجَاءً مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَنْ يُلْهِمَ الْخُصُومَ الرِّضَا حَتَّى يَعْفُوا، أَوْ يَقْبَلُوا الْأَرْشَ، وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْرُ عَلَى مَا أَرَادَ.
وَفِي إلْهَامِهِمْ الْعَفْوَ فِي تَقْدِيرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحَلِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَلِفُ فِيمَا يُظَنُّ وُقُوعُهُ.
(الثَّالِثَةُ) قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ» الْمَشْهُورُ الرَّفْعُ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ وَيَجُوزُ النَّصْبُ فِي الْأَوَّلِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَفِعْلُهُ مَحْذُوفٌ أَيْ كَتَبَ كِتَابَ اللَّهِ. وَفِي الثَّانِي عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِلْكِتَابِ أَوْ لِلْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَيَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ قِيلَ: أَرَادَ بِالْكِتَابِ الْحُكْمَ أَيْ حُكْمُ اللَّهِ الْقِصَاصُ وَقِيلَ: أَشَارَ إلَى قَوْله تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}، أَوْ إلَى {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ}، أَوْ إلَى {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}. وَفِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (إنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ - إلَى آخِرِهِ) تَعَجُّبٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِوُقُوعِ مِثْلِ هَذَا مِنْ حَلِفِ أَنَسٍ عَلَى نَفْيِ فِعْلِ الْغَيْرِ وَإِصْرَارِ الْغَيْرِ عَلَى إيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَكَانَ قَضِيَّةُ الْعَادَةِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ فَأَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْغَيْرَ الْعَفْوَ فَبَرَّ قَسَمُ أَنَسٍ، وَأَنَّ هَذَا الِاتِّفَاقَ وَقَعَ إكْرَامًا مِنْ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَسٍ لِيَبَرَّ فِي يَمِينِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِي يُعْطِيهِمْ اللَّهُ تَعَالَى أَرَبَهُمْ وَيُجِيبُ دُعَاءَهُمْ. وَفِيهِ جَوَازُ الثَّنَاءِ عَلَى مَنْ وَقَعَ لَهُ مِثْلُ ذَلِكَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ عَلَيْهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute