وعبد القاهر في تقديره هذه المسألة، التي لم يُسْبَق إليها كان على جانب كبير
من تذوق البلاغة الرفيعة، والتي تسمو فوق توجيهات القواعد، إنها بلاغة
الجمال الفني والذوق المصفى. والإحساس السليم.
* *
[* التقديم والتأخير في الفعل المنفي:]
يطبق عبد القاهر فكرته التي حرر القول فيها في الفعل المثبت في الفعل
المنفي كذلك. فهما فيها سواء قال: " واعلم أن هذا الصنيع يقتضي فى
الفعل المنفى، ما اقتضاه في الفعل المثبت فإن قلت: أنت لا تحسن هذا. كان
أشد لنفي إحسان ذلك عنه من أن تقول: لا تحسن هذا. ويكون الكلام فى
الأول مع مَن هو أشد إعجاباً بنفسه، وأعرض دعوى في أنه يحسن.
حتى إنك لو أتيت بـ " أنت " فيما بعد " تحسن " فقلت:
لا تحسن أنت، لم يكن له تلك القوة، وكذلك قوله تعالى:
(وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) .
يفيد من التأكيد في نفى الإشراك عنهم مما لو قيل: الذين لا يشركون بربهم.
أو: بربهم لا يشركون. ولم يفد ذلك ".
هذا في المعرفة. أما الفكرة فإنها تفيد التخصيص الجنسى أو العددى.
فنحو: رجل جاءنى. يحتمل أن يكون الجائي امرأة فيكون لقصر الجنس،
أو رجلين، فيكون لقصر العدد قلباً أو إفراداً أو تعييناً. .
هذه خلاصة رأى عبد القاهر في إفادة تقديم المسند إليه التخصيص أو التقوي
حرصنا أن نعرضها بعيداً عن تعليقات أصحاب الشروح والحواشي إلا فيما خف لأن الذوق وحده هو الذي يحكم على هذا المذهب الجزل والمورد العذب والإحساس الرقيق.