في مأكل ولا ثوب ولا نعل ولا مركب، بل يصعد إلى الصالحية وغيرها ماشيًا بهِمّة وجَلَادة وهو في عَشْر التسعين، وكان طويل الرُّوح، ريِّض الأخلاق جدًّا لا يردُّ بعُنْف، ولا يتكثَّر بفضائله، ولا يكاد يغتابُ أحدًا، وإذا كتب في النادر كتابًا إلى أحد لا ينمِّقه ولا يزوِّقه، وكان يستحمُّ بالماء البارد في الشَّيخوخة.
وأما معرفة الرجال فإليه فيه المنتهى، لم أُعاين مثلَه، ولا هو رأى في ذلك مثلَ نفسه، وقال لي: لم أر أحفظَ من الدِّمياطي، وكان ملحوظًا بالتقدُّم في ذلك من وقت ارتحاله إلى مصر.
ولمّا أملَى عليَّ شيخُنا ابن دَقَيق العيد، لم يسألني عن أحد إلا عن المِزِّي، فقال: كيف هو؟
صنَّف كتاب "تهذيب الكمال" في أربعة عشر مجلدًا، أَرْبَى فيه على الكِبار، وألَّف "أطراف الكتب الستة" في ستة أسفار، وخرَّج لجماعة، وما عَلِمتُه خرَّج لنفسه لا عواليَ ولا مُوافَقات ولا معجمًا، وكنت كلَّ وقتٍ ألومُه في ذلك فيسكت، وقد حدَّث بـ "تهذيبه" الذي اختصرتُه أنا ثلاث مرات، وحدَّث بـ "الصحيحين" مرات، وبـ "المسند وبـ "معجم الطبراني" و "دلائل النبوة" وبكتب جَمّة، وحدَّث بسائر أجزائه العالية، بل وبكثير من النازل، ولو كان لي رأي للَزِمتُه أضعاف ما جالستُه.
سمعتُ بقراءته شيئًا وافرًا، وأخذتُ عنه هذا الشأن بحَسْبي لا بحَسْبه، ولن يُخلِفه الزمان أبدًا في معرفته، مع أن عند غيره في معرفة الرجال والأمراء والخلفاء والنَّسَب ما ليس عنده، فإنه إنما يعتني بالرُّواة الذين يجيئون في سماعاته، ويُجيد الكلام في طبقاتهم وقوَّتهم ولينهم، وهذا