والثاني: أن حُسْن الكلام إيجازًا وإطنابًا مما يختلف باختلاف المقام؛ فرب مقام يقتضي الإطناب وبسط العبارة، وربَّ آخَر لا يقتضي ذلك، والخطيب كان في مقام الترغيب والدعاء إلى طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فناسب بَسْطَ العبارة والمبالغةَ في الإيضاح (١).
(١) تكلم الحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - على حديث: "أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما"، وَوَجْه الجمع بينه وبين حديث: "ومن يعصهما فقد غوى"، وذكر أوجهًا عديدة، وذكر وجهًا منها بقوله: "ويجاب بأن قصة الخطيب - كما قلنا - ليس فيها صيغةُ عموم، بل هي واقعة عين، فيحتمل أن يكون في ذلك المجلس مَنْ يُخْشى عليه توهم التسوية". الفتح ١/ ٦١، ٦٢. والظاهر أن الحافظ رحمه الله تعالى ارتضى هذا الجواب؛ لكونه لم يورد عليه اعتراضًا، بخلاف غيره من الأجوبة، وهذا هو الأقرب والأظهر، وأما تعليل إنكار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن الخطيب عَدَل عن الأولى والأفضل، فهو لا يتناسب مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بئس الخطيب أنت"، المفيد بأنه وقع في أمرٍ محرم أو شديد الكراهة. وأما تعليل الإنكار بأن الخطيب في موضع التفصيل والترغيب والدعوة إلى الله تعالى فهو فيما يظهر أضعف من سابقه، كيف وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. . ." - دعوةٌ وأيُّ دعوة، وترغيب وأي ترغيب، فهو مقتض للتفصيل والترغيب. كيف وقد قال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في خطبة الحاجة: "من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه. . ." أخرجه أبو داود بإسناد صحيحٍ، كما قال النووي في شرح مسلم ٦/ ١٦٠، فالأظهر - كما سبق - أن يكون في المجلس من يُخشى عليه توهم التسوية، أو يكون الخطيب ذاتُه خشي النبي صلى الله عليه وسلم عليه تَوَهُّمَ التسوية، وعلى هذا يُنهى عن الجمع بين الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - في الضمير حيث يُخشى توهمُ التسوية، وحيث لا يُخشى فلا مانع من ذلك، والله تعالى أعلم بالصواب.